أضفى الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون في زيارته التفقّدية – التهنوية للبنان، على الأجواء التي يعيشها الوطن الحائر في أمره، بعض الشيء مسحة من البهجة تُسجَّل له بالإمتنان من جانب الأطياف اللبنانية التي أتعبتْها أشهر العدوان الإسرائيلي على ضاحية العاصمة وبعض مناطقها الإدارية فضلاً عن التعامل الهمجي مع مناطق الجنوب وبعلبك والبقاع، ودفع لبنانيون أثماناً باهظة نتيجة ذلك.
ولقد أعادت جولة ماكرون التي اقتصرت مع الأسف على منطقة بعينها وكان مأمولاً أن يضيف مناطق أُخرى انتكبها العدوان الإسرائيلي، وعوَّض عن ذلك الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش الذي زار لبنان ورأى بالعين المجردة ما إقترفته الهمجية الإسرائيلية. ولا يؤاخذ الرئيس الفرنسي على شمله زيارة منطقة سبق أن زارها في زمن تدمير مرفأ بيروت ذلك أن موجبات الأمن الإستثنائي للرؤساء عموماً وبالذات مثل الرئيس الفرنسي جاك شيراك من قبل توجب الحيطة إلى أقصى درجاتها، عِلْماً بأن ماكرون اختلط مع اللبنانيين السعداء بحضوره بينهم ولعلّه في ذلك تجاوز المحظورات الأمنية بفعل سعادته بالمرحّبين به وهم بالمئات من النساء والرجال وموظفي المقاهي والمطاعم في شارع «الجميزة» الذي زاره من قبل مواسياً بكارثة المرفأ. ولم يقتصر التجاوز التقليدي للموجبات الأمنية على أن يختلط بالناس ويلتقط الصور معهم على نحو ما يحدث مع نجوم السينما وإنما عدا إحتساء القهوة المفترض أن يخضع إعدادها لرقابة جماعة الأمن، أكل فطيرة من السبانخ أخذها من صينية عامرة من إعداد المحل المختص بإعداد مناقيش الصعتر والفطائر على أنواعها وتحملها امرأة لبنانية. وزيادة في التوضيح فإن جماعة أمن الرؤساء دائمو الخشية من أن يكون هذا الطعام أو تلك الوجبة أو حتى هذه الفطيرة التي أكلها الرئيس بداخلها لا سمح لله ما يقضي على حياة الرئيس بفعل السم. لكن عفوية الرئيس ماكرون تجاوزت كل هذه الاحتمالات وأكل الفطيرة مبتهجاً وألحقها بكوب من القهوة وهو يواصل محادثاته مع الرئيس اللبناني جوزاف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الوزراء المكلَّف نواف سلام.
هذه اللفتة من جانب ماكرون تذكِّرنا بمثيلة لها يوم زار الرئيس (الراحل) جاك شيراك لبنان مؤازراً بالمثل الماكروني للرئيس (الراحل) رفيق الحريري وكيف أن شيراك إحتسى فنجان قهوة في مقهى يطلّ على مبنى مجلس النواب اللبناني وتبادل التحايا مع صحافيين جالسين في المقهى، ومن دون أن يضفي رجال الأمن بعض الحذر والتهيّب على الجالسين، مستمتعاً بأنه بات يحتسي كوب القهوة في مقهى يقع في الحي التجاري من العاصمة الذي حوَّله الرئيس رفيق الحريري من ركام إلى حي يتباهى لبنان برونق معالمه. ثم لا يقتصر الأمر على تناول كوب القهوة وإنما قام الرئيس الفرنسي برفقة صديقه رفيق الحريري بجولة في شارع من الحي وكأنما يتمشى وهو رئيس لبلدية باريس قبل الترؤس مع زوجته في شارع «الشانزاليزيه» سعيديْن بما هي عليه مظاهر البهجة في نفوس الملايين الذين يسوحون في فرنسا، متمنياً وهو يجول مع صديقه الحريري أن يرى ذات يوم بيروت وكأنما هي قطعة من باريس. ولكن الصراعات اللبنانية من جهة والتدخّل السياسي والأمني من جانب الجار السوري الذي لا ينسى مرارة إخراجه من «لبنانه» وكذلك الجمهورية الإيرانية المتعاملة مع «لبنانها» على أنه حدودها على المتوسط. ثم يأتي العدوان الذي دمّرت فيه إسرائيل نتنياهو ألوف الأبنية والمؤسسات وقتلت المئات من الآمنين في بيوتهم والعاملين في متاجرهم ومؤسساتهم.
لكن الآن وفي ضوء السعي الفرنسي – الدولي لمؤازرة لبنان ومساعدته الذي أُعلن عن أن الرئيس ماكرون سيأخذه على عاتقه عاقداً لهذا الغرض مؤتمراً يؤمل منه الإثمار المنشود، فإن منسوب الطمأنينة اللبنانية زاد بعض الشيء. ونقول ذلك على أساس أن العون العربي متمثلاً بشكل خاص في ما يمكن توقُّع حدوثه من جانب المملكة العربية السعودية والدول الخليجية الشقيقة ومن دون أي موجب لمؤتمر، كفيل بإنعاش الأحوال اللبنانية، مع ملاحظة أن هذا العون بات يسير الحدوث في ضوء الصفحة الجديدة التي سجل فيها الرئيس الجديد العماد عون والرئيس المأمول منه تشكيلة وزارية ضميرية نواف سلام ما يؤشر إلى أن لبنان على موعد مع إعادة النظر جذرياً في أمور كثيرة كانت تشكِّل الإنزعاج والعتب لدى أطراف كثيرة منها بدرجة خاصة السعودية. وإذا كانت إسرائيل و«حماس» أمكنهما الاتفاق على فتح صفحة جديدة وإن غير مباشرة فإن لبنان «الحماسي» مطالَب بأن يأخذ ذلك في الإعتبار، أي يساند «حماس» التي أبرمت إتفاقاً مع إسرائيل بمثل مساندته لها عندما كانت في حالة حرب إسرائيلية عليها ردّاً على أسرى إسرائيليين لديها. وهو بهذه المساندة يسهّل الطريق أمام إعتماد رؤية جديدة للصراع العربي – الإسرائيلي غير تلك التي يراها «الحرس الثوري الإيراني». ومثل هكذا تعديل في الرؤية لا بد منه في ظل الظروف الدولية المتغيّرة، وفي ضوء الضربة الموجعة نفسياً وعسكرياً لإسرائيل والمتمثلة بإجبار حكومتها على إبرام إتفاق وقف إطلاق النار مع طرف تراه العدو الذي لا بد من سحقه. وعندما سيصار إلى قوننة الاتفاق أممياً فإنه يصبح مثل سائر القرارات الموجب الإلتزام بها للصراع العربي – الإسرائيلي، الذي لا ينهيه وعلى خير النهايات سوى الأخذ بصيغة الدولتيْن حلاً يرضي المنكوب الفلسطيني ويضع الناكب الإسرائيلي على طريق الهداية. وهذا يكون من خلال قرار أممي لا يلقى بالذات «فيتو» من جانب أميركا ترامب.