ما الذي كان إيمانويل ماكرون يعرفه عن لبنان قبل انفجار مرفأ بيروت؟ قطعاً، ليس بالشيء الكثير. في الواقع، إنّ الرئيس الفرنسي الأخير الذي كان ملمّاً الى حدّ ما بشؤون لبنان والشرق الأوسط، لأنّه كان يعتبرها بين أولويّات سياسته الخارجية، ولأنه كان يمتلك شبكة علاقات واسعة مع نخبها السياسية والاقتصادية، هو جاك شيراك. جميع الذين توالوا على السلطة من بعده، من نيكولا ساركوزي الى إيمانويل ماكرون، مروراً بفرنسوا هولند، لم يكن لديهم مثل هذا الإلمام أو العلاقات، وتراجعت أهمية المنطقة لحساب أولويات أخرى بالنسبة إليهم. طبعاً، بقي الشرق الأوسط فضاءً سانحاً لانتهاز الفرص كلما سنحت الظروف بذلك، إن كان لإبرام صفقات سلاح أو المشاركة في حروب عدوانية، كما حصل في ليبيا وسوريا، طمعاً بحصة من الثروات الطبيعية وباستعادة قدر من النفوذ، الى جانب «الأخ الكبير» الأميركي، ولكن من الممكن الزعم، من دون أدنى مبالغة، أن فرنسا لم يعد لديها حيال هذه المنطقة بمجملها سياسة متمايزة. سينبري البعض للتذكير بالصلات الخاصة التاريخية والثقافية التي تجمع فرنسا بلبنان، وما يترتّب عنها من مكانة يتمتع بها هذا البلد لدى صنّاع القرار عند من لقّبت يوماً بـ«الأمّ الحنون». قرار الرئيس الفرنسي بالقدوم الى لبنان مباشرة بعد انفجار المرفأ دليل بنظر هذا البعض على متانة هذه الصلات ودوام تأثيرها على السياسة الخارجية الفرنسية. ومن دون إنكار رسوخ موروث ثقافي عن لبنان، استشراقي لدرجة كبيرة، في أذهان قطاع عريض من الفرنسيين، وقد يكون بينهم ماكرون نفسه، إلا أن الترجمة العملية لمبادرته «الإنقاذية» العتيدة من قبل فريقه المكلف بذلك، ومن ثم الهجوم العنيف الذي شنّه على حزب الله في خطابه المخصّص لشرح خلفيّات إخفاقها، يكشفان تقديراً خاطئاً لموازين القوى والوقائع في لبنان الحقيقي، وليس المتخيّل.
من يشكّ بأنّ المنطقة، وضمنها لبنان، لم تكن ضمن أولويّات إيمانويل ماكرون عليه أن يتأمّل جيداً بمعنى إعلان الرئيس الفرنسي منذ حوالى سنتين عن نيّته اقتراح قانون يساوي العداء للصهيونية بالعداء للسامية. لم يسبقه الى مثل هذا الطرح أيّ رئيس فرنسي، بمن فيهم المعروفون بتأييدهم الشديد لإسرائيل، كنيكولا ساركوزي وفرنسوا هولند. ما يشي به الإعلان المشار إليه، إضافة الى انحيازات ماكرون الأيديولوجيّة الحاسمة للصهيونيّة، هو استخفاف تام بما يمكن أن ينجم عنه من ردود أفعال سلبية بين شعوب المنطقة وقواها السياسية. بكلام آخر، فإن ماكرون هو أحد ممثّلي جيل جديد من السياسيين الغربيين الذين لا يقيمون أي اعتبار لهذه الشعوب والبلدان، وينظرون لإسرائيل على أنّها جزء عضويّ من الغرب، والشريك الوحيد الجدير بالاحترام، والذي يمكن التعويل عليه، في الإقليم. ومن الأكيد أن صاحب مثل هذه الانحيازات لا يكنّ أي ودّ لحزب الله أو لمحور المقاومة، وأنه يعتبر نفسه جزءاً من المعسكر المقابل، وإن اختلف مع قيادته الأميركية الراهنة على كيفية إدارة الصراع. وقع انفجار مرفأ بيروت واندفع ماكرون نحو «الشرق المعقّد بأفكار بسيطة»، والتعبير للجنرال شارل ديغول في زمن آخر، لكن المشكلة أن أفكار الرئيس الفرنسي الحالي مفرطة في التبسيط، وتنطلق من تقدير لميزان القوى غير مطابق للحقائق السياسية والميدانية. مَن الذي أقنع ماكرون بإمكانية ترجمة مبادرته بالطريقة التي تمّت بها، والتي تعني عملياً تشكيل حكومة المهمات من قبل نادي رؤساء الوزراء السابقين وباريس؟ مَن الذي قدّم له قراءة لموازين القوى مفادها أن حزب الله واقع تحت ضغوط هائلة ومتصاعدة، خارجية وداخلية، وأن مِن المتاح اليوم حمله على تقديم تنازلات كبيرة كان من المستحيل أن يوافق عليها في السابق؟ الفريق المشرف على بلورة المبادرة ومتابعة تنفيذها معروف، وقطباه الرئيسيان هما: إيمانويل بون، المستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي، وبرنار إيمييه، رئيس الاستخبارات الخارجية الفرنسية. المشترك بين الرجلين أنهما كانا سفيرين في لبنان، إيمييه بين 2005 و2007، وبون بين 2015 و2017، أي خلال فترات شهدت تدهوراً في العلاقات بين حزب الله وفرنسا لم تصل الى درجة العداء التام وانقطاع التواصل. غير أن المحسوم هو أن إيمييه مثلاً يعتقد أنّ حزب الله هو الذي حال دون استكمال أهداف «ثورة الأرز» التي كان مع زميله الأميركي جيفري فيلتمان أحد «رعاتها»، أي نزع سلاح المقاومة، بعد إخراج الجيش السوري من لبنان. حزب الله أفشل جزئياً مهمة إيمييه. إيمانويل بون الشديد الحماسة للمعارضة السورية حسب العديد من معارفه، يرى بدوره أن حزب الله له باع أساسي في هزيمتها. لا تعني هذه المعطيات أنّ رغبة الانتقام من الحزب هي وحدها ما يحرّك المسؤولين الفرنسيين وأنها أضعفت قدرتهم على التحليل الموضوعي للوضع اللبناني والإقليمي، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تضافر «غياب الودّ» تجاه حزب الله مع الضغوط الكبرى الأميركية والإسرائيلية والسعودية، وكذلك تلك الداخلية من قبل محافظيه الجدد، على الرئيس الفرنسي لدفعه نحو المزيد من التشدد تجاه حزب الله، نستطيع أن نفهم بشكل أفضل المآل الذي وصلت إليه مبادرته الفذّة. جميع هذه الأطراف ساهمت بمعنى ما في خلق انطباع لدى ماكرون بأنّ الموازين مختلّة لدرجة تخوّله الحديث بالطريقة التي فعلها، وأن باستطاعته استخدام لغة الإملاء، تماماً كما كانت تفعل القوى الغربية والمؤسسات الاقتصادية الدولية عندما كانت تعتمد تجاه البلدان والشعوب التي نكبت بالحروب والكوارث، ما سمّته نعومي كلاين «عقيدة الصدمة»، وهو عنوان كتابها المهمّ عن هذا الموضوع. من يعتقد أنه سينجح في التعامل مع المقاومة اللبنانية وفقاً لعقيدة الصدمة سيخيب ظنّه سريعاً.