المرض هو خمير الخلاص البشري. وأيّ مرض هو صليب يحمله الانسان ليعبر به إلى خلاص نفسه. وليس عيباً أن يحمل الانسان أيّ مرض جسدي أو عقلي أو حتّى نفسي، أو حتّى أي عاهة، بل العيب الوحيد هو أن يرفض العلاج، أو حتّى أن يسير في مسار علاجيّ لو لم يكن شفائيّاً. فما هو السبيل لفهم بعض الحكّام أو القادة وكيفيّة تعاطيهم في الشأن العام في ظلّ تحوّل اضطرابات بعضهم إلى أمراض نفس- إجتماعية؟ وهل من وسيلة للوصول إلى مُوظّفٍ نوعيّ في الشأن العام يوصل وطنه وشعبه إلى برّ الأمان؟
تعدّدت نظريّات علم النفس الاجتماعي حتّى استطاعت التوصّل إلى مبدأ تعدّد الذكاءات الذي طرحه عالم النفس هاورد غاردنر عام 1983؛ وحينما ظهر “الذكاء الانفعالي” كمفهوم في عام 1995 فإنّه أوجد الرابط المفقود بين نظرية أصحاب معدل الذكاء(IQ) المتوسط الذين تفوقوا على أصحاب معدل الذكاء العالي في 70 بالمائة من الحالات. هذا الاكتشاف الجديد قد غيّر فكرة أنّ عنصر النجاح دائماً هو التفوّق في اختبارات معدل الذكاء (IQ)، أو حملة الشهادات. إن عشرات السنوات من الأبحاث الآن تشير الى أنّ الذكاء العاطفي كعامل جوهري هو الذي يميز صاحب الأداء العالي من بقية الناس.
والذكاء الإنفعالي هو ذلك “الشيء غير الملموس” بداخل كلّ واحد منّا. فهو يؤثّر في كيفية إدارتنا لسلوكيّاتنا، ويتحكّم بمواقفنا الاجتماعية المعقّدة. وكذلك في اتّخاذ قرارات شخصيّة تحقّق نتيجةً إيجابيّةً مرْضِيَّةً لنا. وهنا، لا يختلف اثنان حول ضرورة أن يملك مَن يتعاطى الشأن العام مستوى تعليميّاً مرموقاً، أي أن يحمل أعلى الشهادات في الاختصاصات المختلفة. ولكن أيّ صاحب اختصاص لا يملك الذكاء الإنفعالي الذي يخوّله إدارة مشاعره وعواطفه وانفعالاته لن يتمكّن من إدارة الموقع العام الذي يتولاه. فهو على سبيل المثال لا الحصر، إن كان مديراً عامّاً يحمل أعلى الشهادات، ولا يعرف كيفيّة التعاطي مع موظّفيه، أو فريق عمله فهو سيفشل حتماً. من هنا، على أيّ موظّف أو مسؤول يدخل إلى الشأن العام أن يتحلّى بمهارات لإدارة انفعالاته الذاتيّة ليعرف كيفيّة التعامل مع الآخرين، انطلاقاً من قدرته على إدارة مشاعره وسلوكيّاته الخاصّة، إلى حدّ إدارة أيّ انحراف شخصيّ قد ينزلق إليه. وذلك توصّلاً إلى إدارة ذاته باستعماله هذا الإدراك لمشاعره في خدمة الخير العام. إضافة إلى ذلك عليه أن يتفهّم أمزجة وتصرفات ودوافع الآخرين لتحسين نوعية وجودة علاقاته معهم؛ على أن يكون الإنسان كالإسفنجة مع الآخر لاستيعابه.
وهنا يبرز مفهوم الذكاء الاجتماعي حيث يتمكّن هذا القائد أو الحاكم أو حتّى الموظّف من التقاط مشاعر الآخرين بدقّة ليفهم ما يحدث على أرض الواقع، ليتوصّل بعد ذلك إلى حسن إدارة العلاقات، لكي يدير التفاعل في هذه العلاقات بنجاح. وهذا ما يتطلّب فضيلة التواضع والابتعاد عن النرجسيّة والشعور بالفوقيّة. وهذا للأسف ما لا يميّز بعض قادة الرأي في المجتمع اللبناني الذين فقدوا تواضعهم، إمّا بسبب تحصيلهم العلمي المتقدّم، وإمّا بسبب وصولهم إلى مركز مرموق يقضي على ما تبقّى من إنسان في ذواتهم البشريّة.
أمّا غياب هذه المواصفات من القاموس الحياتي لبعض الحكّام في لبنان فلا يمكن أن يندرج سوى في التوصيف المرَضي لأنّه حالة مرضيّة نفس- إجتماعيّة، نتيجة لعقد يحملها بعضهم من طفولة قاسية ربّما، أو من نقص في الذكاء الشخصي يجد في السلطة ما يملأ هذا الفراغ في شخصه. هذا كلّه، إضافة إلى امتلاك بعض هؤلاء قدرات غوبلزيّة إعلاميّة قوامها الأساسي هو الكذب. وهذا ما أمّن نجاحهم لفترة وجيزة، لو طالت أحياناً، وذلك لغياب الثقافة النفسيّة عند الناخب اللبناني الذي أعطى بعض هؤلاء النسب التمثيليّة العالية فتحكّموا بمصير البلاد والعباد. ويبرز في السياق عينه المواجِه لهذه الآفات الشعار الذي وضعه هوسّرل وتبنّاه هايدغر للفلسفة الظهوريّة هو “إلى الأشياء ذاتها”. وهؤلاء من أبرز وجوديّي الزمن الفلسفي البديع. ليأتي بعدهم المفكّر اللبناني الدكتور شارل مالك ويضع شعاراً مؤلّفاً من أوامر أربعة هي: قِفْ، أَصْغِ، إِحْفَظْ، إِشْهَدْ، لفلسفته الظهوريّة؛ فأورد في الصفحة 105 من كتابه ” المقدّمة سيرة ذاتيّة فلسفيّة” الصادر عن دار النّهار، في طبعته الأولى، في أيّار من العام 1977 الآتي: “وإذا كان من مرض رهيب قتّال في الوجود المعاصر، وجود الحياة العاديّة ووجود حياة الفكر، فهو هذا القلق الكياني المحرور، هذا “البعط” الدائم الذي لا يستقرّ على شيء. هذا الانتقال المضطرب الهائج العقيم السقيم من كيان إلى كيان… ينتهون بتجميع لا شيء من أيّ كيان وقفوا عنده”. وهذا بدوره ينتج طبقة محكومة ذميّة لهؤلاء الحكّام لا قدرة لديها للثورة. ولعلّ هذا ما كان من أبرز مسبّبات فشل 17 تشرين. لذلك علينا مكافحة هذا القلق الكياني المحرور كما عبّر عنه مالك بالشهادة للحقّ. ماذا وإلا سيبقى مجتمعنا مجتمعاً ميتاً غير فاعل إلا إن نجح بالتحرّر من هذا القلق عبر الالتزام الصلب حتّى الاستشهاد. ولدينا أنموذجات حيّة في مجتمعنا السياسي المعاصر وجب الثناء على أدائها ودعمها.
من هنا، للوصول إلى حاكم نوعيّ أو موظّف منتِجٍ نظيف بكلّ ما للكلمة من معنى فلا بدّ من أن يتحلّى هذا الشخص البشري بمستوى عال من الذكاء الانفعالي العاطفي والاجتماعي، ليستطيع إدارة مرفقه أو بلده بنجاح. إضافة إلى تحصيله العلمي المطلوب. فضلاً عن معرفة الحقّ التي تستدعي التعبير عنه، وإلا كان العارف كافراً به، خائناً له. ولا يتمّ فرح الوجود إلا بالشهادة اللائقة بعد الوقوف المصغي والحفظ الأمين. والشهادة تعني الخروج من الذات إلى مشاركة الآخر، لا سيّما المختلِف. وتقبّل النّقد من هذا الآخر المختلِف. وعندها تكون حياة المجتمع حياة سليمة خالية من الأمراض. وعندها تتحقّق لحمة التاريخ ووحدة الإنسان.
ما لم يختَر اللبناني من يسوسَه وفقاً لهذه القواعد النفس- إجتماعيّة لن نستطيع بناء وطن الحرّيّة والإنسان والسلام. وسنستنسخ حكّاماً مرضى لا يعترفون بمرضهم، والأكثر إن اعترفوا، يرفضون العلاج منه. وعندها لن ينفع البكاء وصريف الأسنان. ومَن له أذنان للسماع… فليسمع !