بعد تدخّل «حزب الله» في سوريا، وخصوصاً بعد معركة القصير، دخل لبنان في مسلسلين أمنيين يختلفان عمّا عرفه سابقاً.
المسلسل الأوّل تألّف من تفجيرات انتحارية أغلبها بسيارات مسروقة، وتستهدف أماكن سكنية، باستثناء الهجوم على السفارة الايرانية. ورغم أنّ التفجيرات الانتحارية عمّمت الذعر بين المواطنين، ودفعت لتشديد الحراسة على مداخل الضاحية الجنوبية، فإن أغلب التفجيرات كان سيئ التجهيز، الى ان اندثر المسلسل، وفسّر البعض تعليق التفجيرات الانتحارية بتقدّم أحرزه «حزب الله» لا سيما على جبهة يبرود، الا اننا كنا ننتقل بالنتيجة الى مسلسل ثان.
المسلسل الثاني كانت له محطتان: استيلاء الجماعات المسلّحة المنتمية لـ»داعش والنصرة» على بلدة عرسال، وخطف هذه الجماعات لمجموعة من العسكريين. وبعد محطتي البداية، أخذ المسلسل يتنقل بين قتل عسكري وتهديد ثم قتل آخر. من جهة يقرر الخاطفون حياة أو موت الرهائن من العسكريين. من جهة ثانية يقايضون حياة الرهائن باطلاق سراح عدد من السجناء القريبين منهم في لبنان. التفاوض في هكذا حالة يكون مسألة محفوفة بالمخاطر، ويستوجب الدّقة واحتساب الخطوات والتحدي المتواصل لعامل الوقت. لكنه يتطلّب أيضاً شجاعة على التفاوض، وشجاعة على أخذ القرار، في وضع متوتر بشكل كبير، وملتهب بالغضب البديهي لأهالي العسكريين المخطوفين وهم يرون الواحد من ابنائهم تلو الآخر يقتل بشكل مريع وفي عمر الورد.
هذه المرة، مسألة الخطف تختلف برمّتها عن قضية مخطوفي اعزاز. في اعزاز كان المخطوفون من طائفة واحدة ومدنيين وحجيج، مقرّبين من «حزب الله» أو من ناسه أو من صلبه، وكانت الجهة الخاطفة تبيع وتشتري، وتستهويها لعبة «تلفزيون الواقع» لعرض تطبيقي لـ»عقدة ستوكهولم» حيث يهيم المخطوف بتقدير الحفاوة الحاتمية للخاطف «أبو ابراهيم«.
طال ملف اعزاز كثيراً، لكن في النهاية عاد الجميع. أما هذه المرة، فالمخطوفون عسكريون، وليسوا مدنيين، ومن كل الطوائف والمناطق لأن الجيش من كل الطوائف والمناطق. أما الخاطفون فيتدرّجون بين «النصرة» و»داعش». واذا كان الخاطفون طلبوا في العرض الاول للمخطوفين ان يعلن هؤلاء «انشقاقهم»، فإنّ «عقدة ستوكهولم« لم ترق لهم، وفضّلوا ابتزاز اللبنانيين عند كل منعطف، بالتهديد بقتل أحد الرهائن وترويع أهله وذويه، ثم تنفيذ هذا التهديد بالصوت والصورة.
واذا كان المخطوفون هذه المرة من طوائف عدّة، الا ان الجماعة الخاطفة ليست جمال باشا السفاح المهتم بمراعاة التوازن الطائفي في الاعدامات. لكن الجماعة الخاطفة، المتشددة ايديولوجياً في شعاراتها، تتقن الحسابات اللبنانية الطائفية والمذهبية، بل نخشى القول «انها تلعب بالبلد لعب» لأيّام طويلة قبل وضعها رهينة في موقع «الهدف التالي» وصولاً الى تنفيذها التهديد.
ولعلّ الكثير من الانفعالية الاهلية والسياسية حيال الموضوع تُرشّد بالتنبّه الى هذا الاختلاف بين مخطوفي اعزاز والمخطوفين العسكريين، اي اختلاف الخاطفين والمخطوفين ومكان الخطف ومكان الاحتجاز ونوعية التفاوض والسياق العام. الترشيد يستكمل بعد ذلك بمقاربة أوسع للتصادم الحاصل بين المؤسسة العسكرية اللبنانية وبين المجموعات المتشددة المسلّحة منذ أحداث الضنية وصولاً الى نهر البارد الى عبرا، ذلك ان السياق المتصل بتدخل «حزب الله» في سوريا وحده لا يفسّر لماذا يوجّه الخاطفون مطالبهم لأمور لا علاقة لها بتدخل «حزب الله» في سوريا، وانما بالسجناء المتشددين في سجن رومية. طبعاً، السياقان متداخلان ومختلفان في آن. هذا الاختلاف هيكلي، ولا يمكن استبعاده عند محاولة تفسير لماذا يمكن أن ينجز «حزب الله» عملية تفاوض مثمرة مع «النصرة» في مقابل عدم تمكّن المفاوضات والوساطات من الحؤول دون قتل عدد من العسكريين المخطوفين حتى الآن.