الهولندي فرنس دو فال من أهم علماء الرئيسيات والسلوكيات الحيوانية في عصرنا. كتاباه عن «سياسات الشمبانزي» و»القرد الذي في داخلنا» يشكّلان مدخلاً مختلفاً وكليّ الأهمية للعلم السياسي. أكثر ما اعتنى به دو فال هو دراسة السلوكيات التي تنمّ عن «الشعور بشعور الآخر» أو الـ Empathy، التي يمكن ترجمتها أيضاً «التقمّص العاطفي» أو «التشاعر» أو «التعاطف» أو حتى «المؤاساة» ليس فقط عند الأنواع الأكثر تطوراً من القردة، بل في معظم المملكة الحيوانية.
بدلاً من تعميم حتميات البقاء للأقوى، والتزاحم بلا هوادة، على ما استوحته «الداروينية الاجتماعية» من المملكة الحيوانية، اشتغل دو فال على المنحى المعاكس تماماً: بيّن كم أنّ الشعور بشعور الآخر متجذّر في الطبيعة، وبيّن أن ذلك سيف ذو حدّين أيضاً، كمثل أن تستغل قدرتك على تحسّس حساسيّة غيرك، وهو ما تقوم عليه أساساً كل فكرة الاعلان والتسويق والدعاية. يبقى أنّ تجذّر «التشاعر» في السلوك، يجعله شبكة أمان أساسية خاصة حين تستوعب المنظومة الأخلاقية هذا الاكتشاف العلمي. أعمال دو فال توحي اذاً بأن ثمة سلوكا يساريّا في المملكة الحيوانية ككل!
هل من علاقة بالسُعار الحاصل في هذه المنطقة من العالم؟ نعم. هناك أناس احساسها، ما شاء الله كم هو مرهف، تجاه تجاوز حقوق الانسان هنا، انما يتبلّد شعورها تماماً، ان لم يكن اكثر، تجاه قتل الناس بالسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، وهناك من يتحسّس الاحتمال الطائفي لأي انتقاد يوجّه الى «حزب الله» لكنه لا يشعر أبداً بأنّ ثمّة احساسا بالوجع عند سنّة العراق أو سنّة سوريا، وهناك طبعاً من لا يريد أن يشعر بشعور الألم عند الشيعة أو عند المسيحيين وهكذا، وهناك من يتخوّف على أقلية ويهدّد أخرى، ومن يرفض أن تمسّ مشاعر دينية لهذه المجموعة ويمتهن مقدّسات وكرامات أخرى.
هل يعني ذلك أنّه في هذه المنطقة من العالم، ان نظرية دو فال حول فطرة الحيوان للشعور بشعور الآخرين لا تعمل؟ لا. انها تعمل رغم مناخات الاحتراب الأهلي، لكن تعمل في مقابلها أيضاً ذهنيات «داروينية اجتماعية» تصوّر الصراع الدائرة رحاه هنا وهناك، على أن البقاء فيه للأقوى، ليس فقط سياسياً بل أهلياً واثنياً أيضاً، وأن الخاسر سوف يلغى وجوده الاجتماعي تماماً. المشترك بين الممانعين و«الداعشين« كامن هنا: قمع أي شعور بشعور الآخرين واعتبار الشعور بالآخر خيانة أو ردّة أو الأمرين معاً.
وبمثل هذه «الداروينية الاجتماعية» من الدرجة العاشرة، يدبّج كتّاب السوء مقالاتهم، فيعتبرون أن أي شعور مع الشعور بالظلم الذي يشعر به ملايين السوريين بسبب من نظام آل الأسد فيه خدمة للامبريالية، وأي شعور بالشعور بالظلم الذي يشعر به ملايين العرب السنة في العراق فيه خدمة لـ»داعش»، وأي شعور بالشعور بالظلم الذي يشعر به «الأكراد» فيه تهديد لمصالح العرب القومية، وأي شعور بالشعور بالظلم الذي تكابده المرأة ليس وقته الآن، وهكذا.
هنا، ليست المشكلة استغلال «التعاطف المتبادل» كما حذّر دو فال. المشكلة ان هناك ثقافة سياسية صاخبة تدمن صبحاً ومساء تحذير القواعد المحسوبة عليها من مغبّة هذا الشعور الفطري، المصدري لكل أخلاق وقيم حسنة، ولكل برّ في المجتمع، ولقطع الطريق على «التقمّص العاطفي»، بالترويج لـ»داروينية اجتماعية»، وسواء كانت الأخيرة بصلصة «حزب الله» أو «داعش»، فالمنطق هو: انها معركة البقاء فيها للأقوى، والخاسر فيها لن يُرحَم. والمقولة الأخيرة بالتحديد، بأن الخاسر لن يُرحَم، ليست نفياً لكل أخلاق، بل هي عجز عن الدخول الى علم السياسة، وما «التقمّص العاطفي» الذي نقّب عنه دو فال في أبحاثه العلمية، الا النقطة الواصلة بين علمي الأخلاق والسياسة.
بقدر ما يغيب هذا «التقمّص العاطفي» في الخطاب الاستئصالي المسعور، بقدر ما يوجد ممارسته الميدانية في معاش الناس، في الأشكال الفطرية لـ»حط حالك مطرحه»، و»الله لا يجرّبنا».
وبقدر ما أنّ الأنواع الوضيعة من «الداروينيين الاجتماعيين» من نوع «إما أن نقطع رقابهم أو يقطعوا رقابنا» يتلبّسون ثوب المنظر، من هو الخصم للامبريالية، ومن هو اليسار ومن هو اليمين، ومن الصالح ومن الطالح، فإنّ «التقمّص العاطفي» هذا يظلّ المنبع الأساسي لأي تحريك سياسي جدّي في الاتجاه المعاكس. وما معنى «الموقف اليساري» مثلاً في هذه المنطقة من العالم اليوم، ان لم يكن شرطه وأوّله، «التقمّص العاطفي» لكل العذابات، بدلاً من الاستلاب في مظلومية بعينها، بشكل يجعلها مظلومية «حق حصري» ظالمة بالضرورة لغيرها، من دون أن تشعر، واذا شعرت تنهر نفسها، بأنّه ملاك «شيعة السفارة» أو «يسار السفارة» يوسوس لها مؤامرة في رأسها؟ كل مظلومية «حصرية» هي مظلومية مفترية، وفاشلة. المظلومية النافعة هي التي يتفاعل فيها مظلوم مع مظلوم مختلف عنه.