Site icon IMLebanon

امبراطوريات الخوف

 

«يتكرر التاريخ مرّة بشكل تراجيدي وأخرى بشكل هزلي». فالتراجيدي عندما، (قال ماركس): حركة غير مرتدة. كالنهر الذي لا يمكن أن يغتسل فيه ذات الشخص مرّتين. فكرة التجاوز. أو «القدَرية» المفتوحة. أوَليس هذا ما انبنت عليه مجمل أفكار التغيير «الثوري»، وغير الثوري في القرن العشرين، كأن يقال إنك لا تعود الى المكان ذاته مرتين من دون أن يكون أصابه تغيير، أو تحويل، أو حتى اندثار!

يُحكى اليوم عن بعث الامبراطوريات «القديمة»، بسُحَنٍ حديثة ومعاصرة، وبمواصفات، هي الى قِدَمها، تُغلَّف بملامح أصحابها الجدد. أو بأفكارهم. أو بأهوائهم. أو بأحيائهم. كأنها «العودات» الأبدية المناقضة في حركتها لما يُسمّى صيرورة: أي مختلف الظواهر التقدمية، والأمامية، والمستقبلية. عندنا بعث مزدوج للقيصرية والستالينية مع بوتين: استعادة أمجادها. والأمس أجمل من اليوم. أو غداً مثل اليوم. وعندنا الامبراطورية العثمانية مع أردوغان، واستعادة رونقها وامتدادها، وأبّهتها ونفوذها. وعندنا إيران وتواريخها الفارسية الماضية، يسعى ملاليها إلى استرجاع غلبتها، وقوّتها، وعظمَتها، وهيمنتها على ما يجاورها أو أبعد: فارسية عالمية، تزرع بحزم، وبكل الوسائل، ما يدل حقّاً على جديّة من زرعها، في العالم العربي – الإسلامي، وصولاً الى أثر «كوني»، بالثورات (المضادة) والمشروع النووي، والقوة العسكرية، والتنامي السياسي – السلطوي الفئوي، والمذهبي. فالماضي أيقونة الحاضر، وذهبُ المستقبل، وجوهرة الفراديس الأرضية والسماوية…

هذه «الامبراطوريات»، ديدبانها صُنع ما هو مقبل بما هو آفل. بضاعة قديمة «حاكمية» (الخوارج) مسترجعة، بخطاب إلهي. حركتان إذاً، واحدة من رميم ما انقضى وَبَادَ، وأخرى من آتٍ مجهول الهوية، والقسمات. الماضي كما هو يعني المستقبل بما هو «متخيّل»: الذاكرة والمخيّلة معاً. واحدة الى الوراء وأخرى الى الأمام. تصطدم «السلطتان» هنا، وتلتقيان هناك على غير وئام.

كل هذا، تحرك مسَاره السلطةُ. المطلقة. الإيديولوجية. الأحادية، المضمرة على نفور، والظاهرة على نتوء.

لكن الفارق شاسع، بين ما كان «سلطة» في الأمس، وما بات سلطة اليوم في القرن الحادي والعشرين. الامبراطوريات العتيقة المتوارثة، تمتّعت بسلطات غير مهتزة. غير منقوصة، سواء في الاتحاد السوفياتي أو القياصرة، أو العثمانية، أو الفارسية… فالمطلق اليوم لم يعد مطلقاً. ولم يعد حتى أحادياً، أو مزدوجاً. بل بلا بوصلات ولا إشارات واضحة. الامبراطوريات سلطة لا تُرد. قول قاطع. ممارسة بمرتبة إلهية هنا (ملوك فرنسا، وانكلترا، وروسيا)، أو مقدسة (قادة الاتحاد السوفياتي: لينين – ستالين…)، والنازية (هتلر)، والماوية (ماو تسي تونغ)، والإسبانية، والبرتغالية: إنه تاريخ الاستعمار القديم، الفارض، والآمر، والناهي: السلطة المحضة، على كل من هم دونها، أو على هامشها، أو عوامها، أو جمهورها، أو بروليتارييها. هناك السلطان الأكبر فوق كل ما عداه تحت. لا شريك له (كالله)، ولا ندّ، ولا غريم، ولا معارض، ولا مخالف. سلطة الماضي هي سلاح الحاضر والمستقبل… والدائم.

] .. والسلطة؟

لكن، أين أصبحت السلطة اليوم، حتى في مختلف مستوياتها، كبارها وصغارها، وأشكالها، وقيمها، وتمظهراتها، السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والعلمية، والثقافية، وحتى التربوية: كانت كلها في الماضي من «سر» الحاكم، ثابتة كالأطواد، صلبة كالحديد.

فالسلطة التي تبعث من أرداف الماضي، اليوم، سلطة يؤرجحها الخوف. وامبراطورياتها المعلنة، وسط التحولات المتسارعة، والمتضاربة، هي امبراطورية الخوف، والهشاشة، والتفكك، والتبدد في مشابهاتها الكثيرة، وفي مسالكها المسبوقة. يقول ويزس نييم، المفكر والباحث الفنزويلي في كتابه الجديد «نظرية نهاية السلطة»: «نحن اليوم شهود أحداث غير مسبوقة، تتمثّل «بتفكك السلطة»، أو دمارها، أو أفولها، أو نقصانها على أحسن تقدير»، وهذا التحول يتم حالياً في العالم في كل المستويات: الرياضة كالحرب، البزنس كالعلم؛ «فاللاعبون الصغار الذين يناطحون الكبار يهددون سيطرتهم، بل يتغلبون عليهم». يعني أن «الأضعف» اليوم هو الذي غالباً من ينتصر! (أفضل أمثلة القاعدة، و«داعش». فلنتذكر القاعدة في 2001: خلية إرهابية محدودة هدّدت بعمليتها الإرهابية في الولايات المتحدة، القوة العسكرية لأكبر بلد في العالم.

العالم أقل أماناً

صحيح «أن العالم بات أقل أماناً، وأكثر خوفاً»، إلا أن الدكتاتوريات الجديدة (الامبراطوريات) والقطبيات صارت أيضاً أقل أماناً.. لكن أكثر حرية للتحرك عند «الذين كانوا منبوذين وهامشيين، والمحرومين من أدوارهم وحتى من حضورهم، وآثارهم». وهذا بالذات، ما أصاب سلطاتهم «المطلقة» المفتوحة، وسيطرتهم الداهمة. وهذا بالذات هو مصدر خوفهم المتغلغل وراء عنفهم المادي والرمزي، ووراء ظهورهم بمظاهر القوة والطغيان. ولا ننسى أن هاجس الثورات الشعبية، والانقلابات والانتفاضات تهزّ مضاجعهم. وكلما دَاخَلهم هذا الخوف ازدادوا شراسة، تعويضاً عن انكماش سلطتهم.

إنها «إمبراطوريات ما بعد الديموقراطية»، لكنها أيضاً إمبراطوريات «ما بعد السلطة» أحياناً يهربون الى الأمام بافتعال حروب مع الآخرين، وأحياناً، يتوجهون الى الداخل لقمع أي صوت، أو نبرة، أو إثارة، أو كلمة؛ الثورة «الشعبية الإيرانية» ووجهت بعنف نظام «الفقيه»، وبالقتل، والسجن، والإرهاب.

من هنا يتحوّل أصحاب هذه الامبراطوريات المستجدة الى إرهابيين برتبة رؤساء دول. وهذا ما أرعب أردوغان في الانقلاب الأخير. السلطة مهددة. الوجود مهدد. والماضي مع الإنقلابيين بنكهة أخرى وإن مشابهة: الغولينية هي أردوغانية بامتياز. حتى الأردوغانية نفسها (لكي لا نعود الى العثمانية) لقيت ما يناسب صاحبها من تأييد، وماذا فعل أردوغان، قام بعملية تطهير لم يسبق لها مثيل في التاريخ – طرد مئات الألوف من الجنرالات والضباط والأنفار والأساتذة والقضاة… أي كل الذي يشكّلون له مصدر شك أو ارتياب. ردة فعل امبراطور حديث «النعمة»… يتملّكه رُعب الخروج من السلطة. والخوف ما زال موجوداً. مثل آخر: شعب صغير كالأكراد، هزّ استفتاؤه الاستقلالي مفاصل ثلاث امبراطوريات ودول «عظمى» في المنطقة: العراق، إيران، تركيا: إنهم اللاعبون الصغار تحدوا الكبار؛ وها هم يستنفرون أساطيلهم وجيوشهم لمحاصرة «كردستان»، والنتيجة على الأقل، حتى الآن، غير مضمونة: فالاستفتاء تمّ بـ92 بالمئة مؤيد لدولة مستقلة.

أوروبا

وإذا مضينا أبعد الى أوروبا، فنجد كل ما يعبّر عن هذا التقلقل في السلطات، والجمهوريات، والديموقراطية: السلطات هشّة، والجمهوريات مهتزّة، والديموقراطية متأرجحة. والخوف من كل آتٍ مستجد: تنظيم مثل «داعش» روّع، ببعض العمليات الإرهابية، هذه الأنظمة، بسلطتها وناسها، و«أفقدتها استقرارها» وهدّدت «هويّاتها» (الدينية والمدنية)، وأوضاعها الاقتصادية: من فرنسا الى بريطانيا، الى ألمانيا، كأنما زلزال ضرب البلدان. كأنما إعصار «إرما» حطَّم طبائعها، وقوتها، وأطاح أركانها. علماً أن «داعش» برغم إرهابه، ودمويّته وبربريّته، لا يرقى في تهديده الى مستويات تهديد البلدان النووية. حتى بلد مثل كوريا الشمالية، بلد محدود يُعتقد أنّه يمتلك قنابل ذرية، أرعب أميركا: تحدّاها، استفزّها، حطّ من قدرها، وها هي «الامبراطورية العظمى»، تتوسل الصين وروسيا، للتدخل، من أجل لجم «ماو» الجديد، الذي اهتدى ما ارتكبه الأميركيون في حربهم ضد اليابان، عندما فجّروا أول قنبلة ذرية في هيروشيما: أميركا كلها كأنها صارت هيروشيما: انقلبت الآيات: الأولون آخرون، والآخرون أولون. ومن كان، من قبل، يتجرأ على الولايات المتحدة؟ إنها الدولة العظمى التي تتحكم بمصائر البشر (روما الجديدة)، والحروب والاقتصاد.

أباطرة الأمس

وماذا يعني كل ذلك، أن أباطرة الأمس، لم تكتمل سلطتهم في أباطرة اليوم. هناك شكّ في أنهم يتمتعون بسلطة أكثر تمركزاً من الآخرين: (بوتين، أردوغان، خامنئي)، وعلى عكس ما نظن فإنهم «يواجهون» ضغوطاً، تثقل عليهم، وتمنعهم (عكس مَن سبقَهم من الأوتوقراطيين) من تحقيق كل ما يريدون. «بوتين يواجه حدوداً اقتصادية جدية (العقوبات الأميركية تطارده)»، وسياسة الدولة الهجومية محدودة أيضاً. «فمن الوهم الاعتقاد بأنّه قادر على تحقيق طموحاته في المدى البعيد».

ويذهب واضع كتاب «نظرية ما بعد السلطة» الى الأحوال والأوضاع الاقتصادية: حتى الذين يمتلكون اقتصادات العالم من الأثرياء وأصحاب الشركات ويستخدمون أموالهم للتأثير على مكامن السلطة، والسياسة، فيبدو أنّ هذا المنحى، بات لا يتصل مطلقاً بالطبقات العليا. «فأصحاب الواحد بالمئة من ثروات العالم هم أيضاً ليسوا بمنأى عن تغيرات دراماتيكية مفاجئة، وهذا ما لمسه العالم بعد الأزمة الاقتصادية العالمية»: «فعدد الأميركيين الذين يمتلكون أكثر من مليون دولار تراجع الى 40 في المئة، إضافة إلى أن أصحاب الثروات الكبرى يواجهون هشاشة متصاعدة في أوضاعهم». (كما ورد في دراسة صدرت عن هارفرد).

ويورد مؤلف الكتاب «أن التنظيمات الكلاسيكية للسلطة العلمية تفجرت بقطبيّتها، مع تزايد عدد اللاعبين، مثل البرمجات البحثية، والمختبرات، وطريقة تحديد النتائح وتقويمها: لم تعد هذه الأمور متمركزة مثلاً في مؤسسات مثل «هارفرد» أو سواها.

هل تنتهي السلطة؟

ماذا يعني ذلك؟

تفجرات، هنا، وهناك، كأنما تعني نهاية «السلطة». لكن هل تنتهي السلطة؟ هذا المعطى «التاريخي»، والديني، والسياسي والاقتصادي؟ وهل يعني أن نهاية السلطة، (كما يقول مؤلف «نهاية السلطة»، تفشي الفوضى، والتشظي، وانفلات المجتمعات، بلا ضابط، ولا رادع، ولا كابح؟

الواقع، أنه يستحيل اختفاء السلطة، فهي المحورية، وإن على تعدد، في أمور العالم. واللاعبون الضعفاء الجدد، يمكن أن يشكّلوا حالة إيجابية، في نقل مقاديرها، وفي حطم قطبيّتها؛ فالمهم، لا يكمن في تعدد الأيدي والعقول والمصادر والمرجعيات، بل، وفي هذا الزمن المتسارع، الحفاظ عليها. وهل هذا مستحيل؟ ربما، نعم، وربما لا!

فإذا كانت السلطة بمعطياتها وأدواتها المادية والمجازية، لا يمكن أن تختفي، لكنها اليوم في القرن الحادي والعشرين «بات أسهل الوصول إليها، وأصعب الاحتفاظ بها، وأيسر فقدانها». ويشير ذلك، الى أن العلاقات اليوم باتت رجراجة: وإذا كنّا بتنا نعيش اليوم في زمن «ما بعد الدولة»، و«ما بعد الديموقراطية»، و«ما بعد الرأسمالية» و«ما بعد الإنسانية»، و«ما بعد السيادة» في مجالات السياسة وخصوصاً الاقتصاد، فمن الطبيعي أن تتهالك السلطة. ومن الطبيعي أن يزلزل ذلك لاعبيها الكبار، من امبراطوريات طارئة، إلى جمهوريات ملتبسة، الى برلمانات شبه مهمّشة، الى حكومات مُقيّدة… وهنا لا بدَّ من رؤية الأمور من أمكنة أخرى: صحيح أن الأحزاب في أوروبا وأميركا والعالم العربي، تهاوت، وكذلك إرث النهضة، والتنوير، والقيم الديموقراطية، والدينية، لكن الأهم، أن تنهض كل هذه التنظيمات والأحزاب والمؤسسات لتُمارس ما تجب ممارسته من نقد ذاتي، ومن تجدّد فكري وفلسفي وعلمي، وتلعب دورها الإيجابي بين الجموع البشرية، التي تملّكتها الهشاشة، والتحولات الشعبوية، والمآلات الفوضوية، لتواجه الاتجاهات المتفجرة، من خلال تقديم مسارات السلطة، أي سلطة، كبيرة وصغيرة، وكل ظاهرة، خطرة أو محدودة…. وإلاّ، فالعالم يسير من خلال مؤشراته، إلى التصدع العمومي، على المستويات العليا (الحكام)، أو السفلى: المهمّشين، والضائعين، والقلقين، والمنبوذين، والمحرومين.

السلطة هي في النهاية، بوصلة العالم، إذا كانت في أيدٍ ديموقراطية، نزيهة، نظيفة، مستشرقة، بعيداً عن جنون «الأباطرة»… ومجانين الطموحات الجامحة.