من مفارقات لبنان ان تكثر الالعاب السياسية بمقدار ما تقل السياسة بمعناها الاصلي النبيل: فن ادارة شؤون الناس. فكل شيء يأخذ الطابع السياسي، وسط انحطاط السياسة في فراغ المؤسسات. واقل ما يرافق خواء السلطة هو التسلط. وليس من المفاجآت ان تتركز الاهتمامات على التوظيف السياسي لتسجيلات الاعتداء المشين على المساجين في سجن رومية. المفاجأة هي التصرف كأن واقع التعذيب مفاجأة، وكأن ضحاياه ليست بيننا، وكأن بين المسؤولين وغير المسؤولين سياسيا وامنيا، حاليا وفي السابق من لم يسمع بما حدث ويحدث في السجون منذ ستينات القرن الماضي حتى اليوم. لا بل كأن الدوائر المعنية كانت غافلة، فلم تدرك ما جرى في سجن رومية الا بعدما كشفته التسجيلات المصورة.
ذلك ان التساؤلات دارت حول ما وراء التسجيلات بأكثر مما توقفت عند المشاهد المريعة: من سمح بالتصوير، من احتفظ بالتسجيلات نحو شهرين ثم لجأ الى تسريبها في وقت حرج وصعب، وما هي الاهداف التي يراد تسجيلها وفي خانة من؟ لكن الاهم من ذلك، وحتى من انزال العقاب بمرتكبي الاعتداء، هو العمل الجدي لاخراج لبنان من نادي الانظمة التي تمارس التعذيب الوحشي للمعتقلين السياسيين. وهي أنظمة زادها تمسكاً بهدر الكرامة الانسانية ما شهده سجن أبو غريب العراقي على أيدي العسكريين الأميركيين. ولم يكن ينقصها للذهاب الى المدى الأخير في التوحش سوى اشتداد الارهاب القاتل على يد داعش بعد القاعدة وفروعها التي بينها جبهة النصرة.
والذاكرة لا تزال حيّة لدى القوميين في ستينات القرن الماضي والشيوعيين من قبل ومن بعد، والقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر أيام الوصاية السورية، ثم لدى الجهاديين الذين قاموا بعمليات ارهابية ضد الجيش والمدنيين. ولا مهرب من وقف جريمة التعذيب المتمادية كمهمة مقدسة. فلا مبرر لتعذيب أي معتقل ولو كان ارهابياً، ولم يكن من سجناء الرأي والضمير. ولا يجوز أن يكون رفض التعذيب موسمياً وانتقائياً. حسب نوعية المساجين، بحيث يتعاطف مع المساجين الذين يتعرّضون للتعذيب أهل بيئتهم فقط.
إذ الشرط الضروري للموقف الأخلاقي ضد التعذيب هو ان يكون موقفاً وطنياً جامعاً وانسانياً شاملاً. والحساسية في أي بلد ضد التعذيب تكون قوية وفاعلة عند انتهاك كرامة الانسان داخل البلد وخارجه أو لا تكون سوى تعبير عن عصبية. فكيف اذا كانت وسائل التعذيب حتى في لبنان أخطر بكثير مما ظهر في التسجيلات المصورة الأخيرة؟ وكيف اذا كانت هناك تنظيمات تمارس الاعتقال والتعذيب في سجون خاصة؟