جميل حقاً مغزى اتساع الحبر المدرار والتعبير الصارخ بكل التلونات اللبنانية في رحيل سعيد عقل الذي نخشى ان نقرن اسمه بأي صفة اسوة بكل الكبار الذين تضحي مراتبهم الدنيوية دون اسمائهم العملاقة. جميل في يوم حزن على عظيم ان نكتشف ان كثيراً مما الصق بالنخب اللبنانية هو تزييف كغسل الأدمغة. ذلك ان هذا الشاعر والفيلسوف والمفكر وحتى السياسي فيه، على رغم احتقاره للسياسة بمفهومها السائد، استفز في رحيله أفضل ما يثبت بأنه كان رائد العصبية اللبنانية التي نشأنا تلامذة وطلاباً وشباباً على مفهومها “الأسطوري” الذي صنعه لها الى حدود لبنانية “كونية”. قد لا نكون مبالغين إن قلنا إن هذه العصبية بلغت في مراحل من توهجها مستوى “عنصرية” لبنانية في أذهان مريديه وسلكت مسالك تأثير ساحق في بعض حقبات الصراعات الدخلية وقامت على أساسها سياسات وعقائد نظراً الى السطوة الهائلة للشاعر الكبير الراحل وفكره على امتداد العقود. غير ان هذا الجانب من تراثه المثير للجدل نتركه لـ”خبراء” في سعيد عقل هم الأجدر بدرس ظاهرته الفذة. اما ما نتجرأ نحن على إثارته هنا فهو الزعم بأن فكرة اللبنانية الصارخة تبرز حية حارة الآن بما لا يحسب له كثيرنا وسط أسوأ أزمة ثقة تجتاح اللبنانيين وتقيم أوسع هوة بين عوالم مثالية فكرية أو شعرية أو فنية صنعها عظماء وبين واقعهم الغارق في كل ما يطمس تلك العوالم وجمالاتها.
أياً تكن بعض ردود الفعل التي عايناها في رحيل سعيد عقل، مما أثار نفوراً، فهي لم تحجب الاهم في الصحافة والإعلام والمجتمع والمنتديات المتنوعة عبر زاوية حصرية يمكن جمعها على الاقل والتي تعكس التسليم بأبوة الشاعر الكبير للبنانية ليست عابرة للحدود والطوائف فحسب بل للعوالم كلها ايضاً. ولعل التعبيرات المتنوعة والمتعددة والمختلفة ايضا عن إرث سعيد عقل وسيرته عقب رحيله يمكن ان تشكل افضل ما يواكب جنازته غداً، اذ “يعاين” الراحل في وداعه نبرة لبنانية تصاعدية تبرز بقوة مع لهفة الخشية من اندثار عصبية لبنانية صارخة لسعيد عقل في الفكر والشعر والسياسة سواء بسواء. ولو شئنا اسقاط مفهوم تلك العصبية التي رفعها منذ خط بيته الشعري الاول على زمننا هذا لكانت النتيجة ان لا نجاة للبنان الا بإعادة الاعتبار الخالص لهذه العصبية في وقت يشارف فيه “الشعب العظيم” ان يضحي “ضيفاً” على أرضه مع تراكم خيالي غير مسبوق في تاريخ لبنان لضيوف حلوا على ارضه. فكيف والحال هذه لا نرى كل الأسى على رحيل من لا يحتاج الى اي أسى بعد هذا المجد الذي ملأ به لبنان وعملقه الى حدود الأساطير؟