Site icon IMLebanon

رسائل مُشفّرة تسبق المفاوضات

 

 

فيما يدور بسرعة عدّاد الضحايا في غزة، مسجّلاً الآلاف، ثمة عدّاد للوقت يدور أيضاً. وفي لحظة معينة، سيتوقف العدّادان عند الساعة الصفر. وعند ذاك، سيجلس الجميع إلى الطاولة، وسيظهر الكثير من الخفايا التي كان يخبئها الغبار ودخان الحرائق.

«كلمة السر» المنتظرة في غزة أطلقها رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية. ففي ذروة انفجار التوتر والغضب، أعلن أن الحركة مستعدة للدخول في مفاوضات سياسية تقود إلى «حلّ الدولتين»، على أن تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.

 

ورسمَ هنية روزنامة للخروج من الواقع الراهن، قال إن «الوسطاء» تبلّغوها، وهي الآتية: «وقف القتال وفتح الممرات ودخول المساعدات، ومن ثم المفاوضات السياسية». واتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه هو الذي يقف وراء العنف في القطاع.

 

إذاً، وعلى لسان «حماس»، هذه أولى الإشارات العلنية إلى ما أرادت تحقيقه الحركة، وإيران من ورائها، من الضربة المفاجئة التي تم تنفيذها في 7 تشرين الأول، والتي أصابت إسرائيل في شكل غير مسبوق، أي إطلاق ماكينة التفاوض في أسرع ما يمكن وإقرار حل سياسي.

 

للتذكير، جاءت الضربة في ذروة حراك سعودي – عربي – أوروبي – أميركي كان يهدف إلى إنضاج عملية التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.

 

وقد أبلغَ السعوديون محاوريهم أن المملكة لن تقبل بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل إذا لم يترافق ذلك مع منح الفلسطينيين حداً مقبولاً من الحقوق المشروعة. فللمملكة رمزية ورصيد عربيان وإسلاميان لا تقبل التفريط بهما. وقيادتها الشابة أبلغت هؤلاء الوسطاء برنامجاً محدداً للوصول إلى التطبيع يتضمن الآتي:

1 – إعلان إسرائيل التزامها الحل العربي الذي طرحته المملكة نفسها على القمة العربية في بيروت، العام 2002، فجرى تَبنّيه. وهو يقوم على مبدأ الدولتين.

 

2 – في موازاة حصول طهران على قدرات نووية، لأهداف سلمية -على الأقل- تطالب الرياض بمنحها أيضاً فرصة الحصول على مفاعل نووي يجري استخدامه للأهداف إيّاها.

 

وفي الأسابيع القليلة التي سبقت ضربة 7 تشرين الثاني، تحرك الوسطاء الأوروبيون والعرب في اتجاه إحياء مبادرة بيروت العربية. وانطلقت في الجامعة العربية ورشة لدراسة السبل الآيلة إلى تحقيق هذا الهدف، في ضوء المتغيرات التي شهدها الصراع العربي – الإسرائيلي في السنوات الأخيرة. وكان لافتاً إعلان ولي العهد السعودي أنّ مسار التطبيع مع إسرائيل أحرزَ تقدماً. وهذا يعني أن المفاوضات الرامية إلى بلوغ الحل السياسي المطروح ربما وصلت إلى مخارج ترضي الجميع.

 

في هذا التوقيت، أعطت إيران الضوء الأخضر لـ»حماس» كي تنفذ ضربة تعيد خلط الأوراق وتقلب المعادلات رأساً على عقب. وقد أدت الضربة إلى توقف تام لمساعي التطبيع السعودي – الإسرائيلي.

بالتأكيد، لو كُتب النجاح لجولة المفاوضات السابقة، التي وافق عليها السعوديون، عبر الوسطاء الغربيين والعرب، لكانت السلطة الفلسطينية هي المرجعية التي ستتولى إخراج الحل النهائي، أي صيغة الدولتين التي يتم الاتفاق عليها.

 

ولكن، اليوم، «حماس» فرضت نفسها كمرجعية قرار بالنسبة الى ما يتعلق بمصير الفلسطينيين. فيما تبدو السلطة مُربكة جداً، وتعلو أصوات قريبة منها، كرئيس الوزراء السابق سلام فياض، تطالب بحل سياسي سريع تمهّد له «حماس» بإطلاق الأسرى الإسرائيليين فوراً ومن دون شروط مسبقة، لأن خسائر المدنيين الفلسطينيين في الأسبوعين الأولين من القتال وازَت خسائرهم خلال الانتفاضة الثانية بكاملها، ولأنّ المزيد من المجازر سيقع مُتسبباً بآلاف أخرى من الضحايا.

 

في السياسة، ما حصل اليوم هو أنّ مرجعية القرار الفلسطيني انتقلت، بقوة النار، من يد السعوديين والعرب والسلطة الفلسطينية إلى يد إيران و»حماس» التي تعمدت أن ترفع، بدلاً من المملكة، شعار حل الدولتين، وتعلن الاستعداد للتفاوض على أساسه. وهذا هو تماماً مغزى الدخول الإيراني على الخط: نحن الذين نصنع الحلول في الشأن الفلسطيني، ولا أحد سوانا.

يعني ذلك تبدّلاً في توازنات القوى في الشرق الأوسط. فطهران التي تمتلك الجزء الأكبر من القرار في 4 عواصم عربية هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، حسمت اليوم نفوذها كمرجعية أولى، لا ثانية، في الملف الفلسطيني أيضاً.

 

ولا يمكن لإسرائيل أن تمضي طويلاً في ارتكاب المجازر لتحقيق أهدافها، أي كسر نفوذ «حماس» ومحاولة تحريض الفلسطينيين عليها وإفراغ غزة من سكانها، لأنّ أحداً لا يستطيع تحمّل العواقب.

 

ولذلك، تصر إسرائيل، بدعمٍ صريح من الولايات المتحدة، على عدم وقف النار إلا بتحقيق أهداف «دسمة» على الأرض، استباقاً لدخول الجميع في التسوية. وهذا تحديداً ما تنتظره ايران، أي الجلوس إلى الطاولة، والقول: في الملف الفلسطيني أيضاً، الأمر لي.

 

إذاً، حتى الوصول إلى تلك اللحظة، ستستمر ضربات إسرائيل التدميرية الموجعة في غزة، وسيواصل كل طرف عرض عضلاته ورفع السقف للحصول على أكبر قدر من المكاسب في المفاوضات الآتية حتماً.