Site icon IMLebanon

نهايات الأعوام واستمرار الأزمات

 

ليس من المحمود ولا المقبول تكرار توصيف المشكلات العربية، أو دراسة مراحل تحولاتها. ويعود ذلك لأنّه ليس في الأمر جديد يمكن إطلاع القارئ عليه، كما أنه ليس في ذلك بعثٌ لأملٍ أو فتْحٌ لأُفُق. وإذا لم يكن ما أذهب إليه واضحاً فيمكن إيراد بعض الأمثلة المحبطة، بحيث تبدو الحلول التي أقترحها بعد ذلك إرادوية ورغبوية. ولنبدأ بليبيا. ففي نهاية العام الماضي (2017)، كنا نحاول بعث أملٍ ما بالمقاربة الجديدة التي سيجترحها المبعوث الدولي الجديد غسان سلامة. وقد اعتبر السياسي والدبلوماسي الخبير أن الأفضل العودة للأصل، بإجراء الانتخابات وكتابة الدستور، وتحمس الفرنسيون لذلك، وجمعوا سائر الأطراف بباريس. لكنّ الميليشيات المسيطرة، التي تخشى الانتخابات، أثارت اضطراباتٍ كبرى. وبدلاً من الإصرار، ترك القوم باريس واتجهوا إلى إيطاليا، التي فقدت الأمل في الحل الشامل، واتجهت لإجراء عقود مع المسلحين للحيلولة دون الهجرة إلى شواطئها، معتبرة أنّ فرنسا تركض وراء سراب! سلامة ما يزال يأمل بانتخابات في أبريل (نيسان)، والمراقبون مجمعون على استحالة ذلك. فما العمل؟ لا بد من القضاء على الميليشيات كلّها، وجمع مجلس الأمن على إدانة تركيا لإمدادها بالسلاح؛ إنما من هو الطرف الذي يقوم بالمهمة؟ الجيش الوطني الليبي بدعمٍ من المصريين والجزائريين، وإذا احتاج الأمر إلى قرار فيمكن أن تتخذه الجامعة العربية. وتستطيع الحكومة التوافقية في طرابلس أن تدعم القرار أو تسكت بسبب وقوعها تحت سيطرة الميليشيات، مثل الحكومة اللبنانية.

وفي نهاية العام، جرى في سوريا ما لا تُحمد عقباه. وقد يبدو الأمر مضحكاً إذا اعتبرنا الانسحاب الأميركي سلبياً. الذين أرادوا البقاء الأميركي منا كان قصدهم أنه يُحدثُ بعض التوازن مع الروس والإيرانيين والأتراك. وقد سمعتُ خبيراً لبنانياً يعتبر أنه نتيجة الانسحاب، فإنّ الإيرانيين أكبر الكاسبين، والإسرائيليين أكبر الخاسرين. ولا شك في إفادة الأتراك، وخسارة الأكراد. لكنّ الأميركيين ما كانوا يزعجون بوجودهم الإيرانيين. وكنتُ أرى أن وجود الروس والأميركيين معاً يمنع نشوب الحرب الشاملة، ولذا فإنّ الانسحاب الأميركي ربما قرّب حدوث الحرب بين إسرائيل و«حزب الله». ومن نقائض الوجود التركي والإسرائيلي أنّ كلا الطرفين يجد نفسه في الموقف المضحك، وهو مساعدة بشار الأسد. التركي يريد الضغط على الأكراد وعلى المعارضة المسلحة الخاضعة له. ومن الأمرين يستفيد النظام. وإذا ضعُف الحزب والإيرانيون نتيجة الهجمة الإسرائيلية المحتملة فإنّ نظام الأسد يستفيد أيضاً! وكل هذه احتمالات غير واضحة الحدوث، فيبقى أنّ الانسحاب الأميركي ما قرّب الأزمة السورية من الحلّ. ولا ظهر طرفٌ أو أكثر مستعدين لدفع تكلفة إنهاء النزاع وإعادة المهجَّرين؛ لأنه إذا انفرد الروس والإيرانيون والأتراك بالحلّ؛ فإنّ العَرب والأوروبيين لن يدخلوا في تحمل الأعباء!

ولنذهب إلى اليمن؛ إذ يبدو لأول وهلة أن التسوية من حول الحديدة إيجابية، باعتبارها يمكن أن تشكّل بداية لنهاية الحرب. والذي أراه أنّ الحوثيين لن يمشوا فيها، ليس لأنهم أقوياء أو متخلفون لا يفهمون؛ بل لأنّ هذا الأمر هو الأسوأ لإيران الآن. فالحصار الأميركي خانق، وهي تريد الإزعاج بالأوراق التي تملكها ومنها اليمن والعراق ولبنان وسوريا وغزة. ولذلك فسيضطر الحوثيون للعودة للقتال مهما كلفهم ذلك. وإذا اضطروا للخروج من الحديدة، فسيكون أصعب فك الحصار عن تعز وإخراجهم من صنعاء وبعض المحافظات الوسطى. وربما اضطروا الآن لإيقاف القتال لالتقاط الأنفاس، وعلى أي حال هناك شهرٌ لا أكثر ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود!

ويتظاهر الأميركيون والعرب بالرهان على العراق ولبنان. وهناك فرقٌ سياسية مختلفة في العراق بالفعل، وهي متفاوتة في درجة ولائها لإيران. لكنّ عماد المرض العراقي ليس هذا الحزب السياسي أو ذاك، فهؤلاء ناطقون وحسْب. أما الأمن العراقي كله فهو في يد إيران، وليس الحشد الشعبي وحسْب؛ بل معظم قيادات الجيش، والشرطة الاتحادية، وفرق مكافحة الإرهاب. وهؤلاء يضمنون لإيران السيطرة حتى لو عارض كل السياسيين، وهم لا يعارضون. والصراع الحالي على وزارتي الدفاع والداخلية، ألهى غير المراقبين الحاذقين عن أنّ المالكي كسب بين عشية وضحاها لأحد أنصاره المعروفين منصب محافظ بغداد!

ووضْع لبنان مع نهاية العام 2018 يبدو أصعب من وضع العراق! فليس فيه حكومة عاملة منذ 7 أشهر. ومرة يتعطل تشكيلها تحت وطأة الحزب. ومرة يتعطل تشكيلها تحت وطأة رئيس الجمهورية. وخلال ذلك تشتد المماحكات على الحدود مع إسرائيل، ساعة بحجة الأنفاق، وساعات بحجة الصواريخ. فحدوث الحرب مسألة وقت، أي متى تقرر إسرائيل أنّ ذلك في مصلحتها. فالمشكلة التي تتفاقم أنّ في لبنان ميليشيا مسلَّحة تعد عشرات الأُلوف، وهي تسيطر على المرافق الرئيسية، وتستغلها مالياً واقتصادياً وسياسياً، وتسيطر على قرار الحرب والسلم من فوق رؤوس قادة الجيش ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. والأميركيون والعرب الذين يعتبرون ميليشيا الحزب إرهابية، يحاصرونها مالياً ولوجستياً، لكنهم يساعدون الجيش، الذي لا يفعل شيئاً هو والقوات الدولية لإنفاذ القرار الدولي رقم 1701 وإبعاد الحزب عن الحدود! ولذا فإنّ لبنان في نهاية العام 2018 يكاد يدخل في حالة اختناق، وبخاصة قطاعه المصرفي الذي استطاع تجاوز كثير من الأزمات من قبل، لكنه فيما يبدو لن يصمد هذه المرة!

ويفتخر السنوار زعيم «حماس» في غزة بعظمة علاقتهم بإيران. ولولا الخجل (والسنوار على أي حال غير معروف بذلك!) لافتخر أيضاً بحُسْن علاقته بإسرائيل. فالإسرائيليون يعرفون أنّ الحلَّ الوطني ومسألة القدس، كلا الأمرين، لا يمكن إسقاطهما إلاّ بإسقاط السلطة الوطنية الفلسطينية. ولذلك يتهادنون مع «حماس» التي يعتبرونها مشكلة هامشية لمصر، وليس لهم، ويركّزون ضغوطهم على الضفة الغربية والقدس. ولأنّ «حماس» تكره «فتح» أكثر مما تكره إسرائيل؛ فقد أعلنت عن تصعيد عملياتها في الضفة الغربية والقدس. وهي تملك هناك وهنالك تأثيراً على بضع مئاتٍ من الشبان الذين «جنّنهم» اليهود! هذا هو حال القضية الفلسطينية مع نهاية العام 2018. لا صراع مع إسرائيل، بل صراع بين «فتح» و«حماس»، ومصر تحاول أن تُرضي هذا الطرف فيزعل ذاك الطرف، والعكس بالعكس. أما الحلول بين «فتح» و«حماس» فتغيب عن الواقع والأفق، فكيف بحلول القضية الفلسطينية!

وكأنما لا تكفينا هذه الأزمات المتفاقمة في العام 2018 والأعوام الخمسة السابقة، الاضطراب يتهدد بلدين عربيين جديدين: السودان والجزائر. السودان محتاجٌ لإصلاح منذ أوساط تسعينات القرن الماضي. وقد خسر السودان وحدته، ويوشك أن يتقسم من جديد، وكل ذلك لأنّ الحكم العسكري القائم لا يقبل المشاركة، ولا ينجح في التنمية. أما الجزائر التي مرض رئيسها قبل نحو العقد، فما يزال العسكريون المسيطرون يجددون ويمددون له. والأزمة الاقتصادية تتفاقم في هذا البلد الغني المبتلى بسوء الإدارة، والبطالة ترتفع إلى نسبة 30 في المائة بين الشباب.

ينتهي العام 2018 إذن والمشكلات العربية إلى تفاقُم، والنهايات أو إمكاناتها بيد «الغير» الدولي والإقليمي. ولا حول ولا قوة إلا بالله.