اندلعت الحرب الضروس بين اسرائيل وحماس في غزة قبل سنة وفي اعقاب الغارة المباغتة التي شنها مقاتلو حماس ضد مستعمرات غلاف غزة، والتي جاءت نتائجها موجعة جداً لاسرائيل وحكومة بنيامين نتنياهو. استعملت الحكومة الاسرائيلية كل ما تملكه من ادوات وعناصر قدراتها العسكرية ضد حماس والشعب الفلسطيني في غزة، وتسببت هذه بالتالي بتدمير جميع البنى التحتية والعمرانية، حيث تتحدث الاحصاءات عن تدمير ما يقارب 80 في المائة من المنازل والمدارس كما اصابت البنى الصحية والطبية باضرار جسيمة، حيث لم يبق سوى مستشفى واحد عامل بصورة جزئية من اصل 36 مستشفى في القطاع.
لم تترك اسرائيل اية فرصة للجهود الدبلوماسية المبذولة من مصر وقطر وبدعم من ادارة جو بايدن الاميركية لحل مسألة الرهائن والاسرى مقابل تحقيق وقف لاطلاق النار.
في اليوم التالي، وتحديداً في 8 تشرين الاول عام 2023 اعلن حزب لله بلسان امينه العام السيد حسن نصر لله قراره بالحرب ضد اسرائيل من اجل مؤازرة حماس في حربها ضد اسرائيل. كان قرار حزب لله دخول الحرب مفاجئاً ومستقلاً عن اية مشاركة للدولة اللبنانية، ودون اي اعتبار لمصالح الشعب اللبناني وسلامة سكان الجنوب.
خلال سنة كاملة من انقضت على بداية الحرب اظهرت اسرائيل بشكل لا يقبل الشك بأنها تسعى الى استعمال كل قدراتها العسكرية لارتكاب كل انواع المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين، مع تأكيد رفضها التوصل لاي تفاهمات مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي حول مسار الحرب، وتخفيف اثارها على المدنيين من خلال مراعاة قوانين الحرب. ورفضت اسرائيل وبشكل قاطع الاستماع الى كل الدعوات الغربية بتحويل الحرب من عملية ثأرية متوحشة الى عملية عسكرية، هدفها تخليص شعب غزة من حكم حماس، تمهيداً للدخول في عملية دبلوماسية تهدف الى استغلال التطبيع وانفتاح الدول العربية نحوها من اجل التوصل لحل سياسي للنزاع من خلال الموافقة على حل الدولتين، والذي يحظى بموافقة ودعم غالبية القوى الدولية.
لم يستفد نتنياهو وحكومته من كل التجارب السابقة لقادة اسرائيل الذين سبقوه منذ انشاء دولة اسرائيل في عام 1948، حيث نجح بن غوريون في قبول قرار التقسيم وانشاء دولة اسرائيل على ما يقارب 78 في المائة، من الاراضي الفلسطينية. كما انه لم يستفد من تجربة ليفي اشكول في تثبيت المكاسب الجغرافية التي حققتها حرب الايام الستة، من خلال مبادراته الدبلوماسية باتجاه واشنطن ولندن وباريس. ونجح ايهود باراك في عام 2000 في تأمين الظروف لانعقاد مؤتمر «كامب دافيد» وتأمين الشرعية الداخلية والدولية لكبح وانهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في المقابل اختار نتنياهو رداً على هجوم حماس على مستعمرات غزة ركوب المغامرة بشن حرب مدمرة ضد شعب غزة، ودون البحث عن اية تغطية شرعية ودولية لحربه، معلناً مجموعة من الاهداف التي لا يمكن تحقيقها من اجل تحقيق الانتصار الكبير الذي سعى الى تحقيقه.
دفعت غريزة الثأر من حماس ومن شعب غزة الى اعتماد استراتيجية قصيرة النظر، دون ااب نتائج شد حزب لله لدخول الحرب «لنصرة غزة»، ودون الاخذ بالاعتبار مخاطر شد ايران لدخول الحرب وتحويلها الى حرب اقليمية واسعة.
خلال سنة كاملة من بداية الحرب، قرر نتنياهو الغرق في وحول الحرب في غزة، مع رفع سقف المواجهة مع حزب لله على الجبهة الشمالية، دون بذل اية جهود لتحقيق الحد من المواجهة بصورة مباشرة من خلال شن هجمات بمئات الصواريخ الباليستية على اسرائيل.
في تقييمنا لمسار الحرب منذ بداياتها في غزة ووصولاً الى تطوراتها على الجبهة اللبنانية يبدو لنا بأن اسرائيل تلعب ضمن الاستراتيجية العامة التي خططت لها ايران منذ سنوات طويلة، والتي تهدف في نهاية المطاف الى تدمير اسرائيل، وفرض هيمنتها على العالم العربي، وتخريب المصالح الغربية في المنطقة. وهذه الاهداف هي معلنة، ويكررها المسؤولون الايرانيون في مختلف المناسبات، مع سعي دؤوب وواضح لبناء اذرعة عسكرية في عدد من الدول العربية، ويمكن القول بأن على اسرائيل ان تواجه ايران على سبع جبهات مختلفة تمتد من غزة الى الضفة الغربية، والى لبنان وسوريا والعراق واليمن، بالاضافة الى جبهة المواجهة المباشرة مع ايران.
تعتمد ايران في استراتيجيتها الطويلة الامد خطة ثلاثية الاضلاع: اولاً، هي جادة في تطوير قدراتها النووية، وصولاً الى صنع السلاح النووي، وبالتالي بناء قوة تومن التوازن الاستراتيجي الحقيق مع اسرائيل، ثانياً، الاستمرار في تطوير اسلحتها الصاروخية من صواريخ باليستية وصواريخ مجنحة «كروز» وفرط صوتية، والتي اثبتت في عملية القصف الايرانية الاخيرة بأنها قادرة على خرق شبكة الدفاعات الجوية التي تملكها اسرائيل. ثالثاً، نجحت ايران في تطويق دولة اسرائيل بعدد من القوى والقواعد العسكرية من حلفائها، وهي تطوقها الآن دفاعياً، وذلك بانتظار امتلاكها الفعلي للسلاح النووي، والذي يؤمن لها الضمانة للانتقال الى مرحلة الهجوم، مع امكانية تهديد الكيان الاستراتيجي لدولة اسرائيل.
يبدو الآن من الحرب التي يشارك فيها حزب لله مع حماس بأن هناك خطة لتحويل اسرائيل الى ما كانت عليه الحرب في فيتنام في ستينات القرن الماضي، بحيث تتحول اسرائيل الى دولة ضعيفة تعيش تحت حماية المظلة الاميركية، مع الامل في تحويل الرأي العام الاميركي ضدها، كما حدث في فيتنام. وتشكل الانتفاضات التي حدثت في اعرق الجامعات الاميركية والمظاهرات التي شهدتها المدن الاميركية خير مؤشر الى امكانية حدوث ذلك، وان الوحشية التي تعاملت فيها اسرائيل مع شعب غزة تخدم فعلياً نحاج هذه الاستراتيجية التي تعتمدها ايران وحلفاؤها.
اظهر فائض القوة التدميرية التي استعملتها اسرائيل، وما زالت تستعملها ضد المدنيين في غزة، بانها تكرر الاخطاء التي ارتكبتها القوى الاستعمارية ضد شعوب فيتنام والجزائر وسياسة التمييز العنصري الذي طبقته سلطات جنوب افريقيا، وستظهر الآن الحرب التي بدأتها مع لبنان طبيعتها العدوانية، وعدم التزامها بأية اعتبارات انسانية وقانونية في قصف المدنيين من الجنوب الى البقاع الى ضاحية بيروت الجنوبية.
وتطورت اعتباراً من اواسط ايلول المواجهة بين اسرائيل وكل من حماس وحزب لله لتظهر مدى وحشية العمل العسكري الاسرائيل سواء من خلال مسلسل الاغتيالات الذي ابتدأ من اغتيال اسماعيل هنية الى الاغتيالات المتتابعة في صفوف قيادات حزب لله، وصولاً الى اغتيال الامين العام حسن نصر لله. وكانت قد سبقت ذلك جريمة ارهابية من خلال تفجير شبكة (البايجر واللاسلكي) والتي قتلت وجرحت ما يقارب 5000 من مستعملي هذه الاجهزة داخل الحزب.
وتطورت الحرب على لبنان مع بدايات تشرين اول 2024 الى حرب مدمرة، وظهرت خطورتها مع دخول ايران مباشرة للحرب من خلال عملية قصف بـ200 صاروخ باليستي لمنشآت حيوية اسرائيلية، ويقف العالم الآن بانتظار الرد الاسرائيلي، والذي يمكن ان يفتح الباب لحرب متواصلة ومدمرة، وبما يؤكد مدى قصر نظر القيادة الاسرائيلية، والتي سعت الى تحقيق اهداف تكتيكية من خلال ارتكابها لاخطاء استراتيجية باهظة الثمن.
يفترض حجم الاخطار الذي تواجهه اسرائيل ان تنهي حربها في لبنان في اقرب فرصة ممكنة، وبدعم من الولايات المتحدة التي يمكنها ان تسهل عملية انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة لبنانية فاعلة وقادرة على استعادة السيادة على كل اراضيها، وفتح الباب بالتالي للشروع بتنفيذ القرارين الدوليين 1701 و1559، ولا بد ان تدرك اسرائيل بأنها لن تنجح في احتواء التهديد الايراني في غياب تحقيق السلام والتطبيع الكامل مع الدول العربية. ومن خلال حل الصراع مع الفلسطينيين، والذي لن يتحقق الا من خلال الدولتين، الامر الذي يستوجب ان تمارس الولايات المتحدة كل الضغوط اللازمة على الحكومة الاسرائيلية لتحقيقه، ووقف سياسة الكراهية التي تمارسها هذه الحكومة اليمينية بقيادة نتنياهو.