هناك شعور عند اللبنانيين، بأن الحكومة، رئيساً ووزراء، تسوح في العالم على حسابهم، وحساب تعبهم وعرقهم، واذا كان هذا الشعور غير صحيح، او مبالغ به، فعلى الحكومة ان تنشر بياناً توضح فيه قيمة المبالغ التي انفقت من خزينة الشعب على 24 سفرة لرئيس جمهورية ووزراء في خلال سنتين ونصف السنة، وما هو مردود هذه السفرات على الوضع اللبناني المأزوم سياسياً ومالياً واقتصادياً واجتماعياً وامنياً وطائفياً وديموغرافياً، وهذا البيان الذي يطالب به اللبنانيون، هو حق من حقوقهم لمعرفة من وكيف ولماذا انفقت الاموال الطائلة التي ذهبت مع الريح، مثلها الاموال التي لا تدخل الى «جيوب» الخزينة، او التي تخرج منها تحت يافطة «الهدر المالي».
يقال، وعلى ذمّة الراوي، ان الوفد اللبناني الى اجتماعات نيويورك، كان من اكبر الوفود، عربياً واوروبياً واميركياً، ويقول الراوي ايضاً ان احد اعضاء الوفد قال عندما سئل عن اسباب تكبير حجم الوفد «لأنه يحمل قضية كبيرة، هي قضية النزوح السوري الى لبنان» انه كلام جميل وكلام معقول، لا يقدر احد ان يناقش به، شرط ان تعطينا الحكومة، الهبة من الله، تفاصيل ما انتجته الوفود السابقة والاجتماعات السابقة للغاية ذاتها، اي درس ومناقشة قضية النزوح السوري الى لبنان، والتي عادت جميع الوفود اللبنانية منها «إيد من ورا وإيد من قدّام» بل اكثر من ذلك، نقصت الاموال أو حتى انعدمت، وازداد النزوح حتى اتخام اللبنانيين، وعلى الارجح بل من المؤكد، ان هذه الرحلة الى نيويورك لن تختلف عن سابقاتها، حتى ولو تعهّد هولاند، واكّد كيري، وأقسم لافروف، و«طبطب» بان كي مون، بأن الفرج آت، وان لبنان على رأس قائمة اهتمامات العالم، لأن هذا الكلام كذب بكذب: و«ترقيد بترقيد» وهو كلام حق في المبدأ، ولكن سينتج عنه الباطل الذي تحوكه هذه الدول التي تعتبر ذاتها حرّة وديموقراطية وحامية حقوق الانسان، ولكنها تغرق سوريا والعراق وليبيا واليمن بالموت والدمار، وعندما يأتي دور لبنان ستغسل يديها من دم هذا الحمل، وتتركه فريسة للاقوى يتصرّف به كيفما شاء، المهم بالنسبة اليها ان يبقى فيه من دخل اليه لاجئاً او نازحاً او عاملاً، او من يبقى منهم على قيد الحياة.
سنة 1978 وبعد انتهاء زيارة طويلة لواشنطن احببت ان تكون لندن محطتي الاوروبية بدلاً من باريس، وفي طريقي من المطار سألني سائق التاكسي عن هويتي، فقلت له انني لبناني، فقال بالحرف «انا آسف من اجلك سيدي، لقد انتهى لبنان» وفي الحديث معه عرفت ان احد نواب مجلس العموم البريطاني وهو من حزب المحافظين، «زبون عندو» وهو الذي قال له ان لبنان انتهى ولن تقوم له قائمة كدولة بعد الآن.
معلومات هذا النائب او نبوءته او تحليله، ربما تأخرت بعض الشيء، ولكن مسار الاحداث في لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد بشير الجميل، والاحتلال الاسرائيلي وما جرى من مجازر وانتفاضات وحروب وهجرة ودمار ووصاية سورية، وشبه دولة في ظل هذه الوصاية، واغتيالات طالت رؤساء جمهورية وحكومة ووزراء ونواباً وصحافيين، ومثقفين، ووقوع احداث امنية في العاصمة بيروت وطرابلس والمخيمات، وانفجار الحرب في سوريا وانغماس بعض الافرقاء اللبنانيين فيها، وصولاً الى الاوضاع الحالية البائسة في جميع وجوهها، يؤكد حقيقة معيوشة ان لبنان المعروف منّا قد انتهى، وان لبناناً آخر سيحلّ محلّه، وان ما يجري اليوم من حراك مسيحي، للتمسّك ببقاء وطن كانوا أساساً في وجوده واستمراره حتى اليوم، من الصعب جداً او ربما المستحيل ان يكتب له النجاح، الاّ بأعجوبة، واتمنّى الاّ يكون زمن العجائب قد انتهى.