أرشيف بلدنا مليء بالدموع… دموع أمّهات تسيل عبر المدن والبلدات والمحافظات… دموع لا تكفي لغسل دماء أبناء لم يموتوا إلّا نادراً على مسرح الوطن، بل تساقطوا كحبّات البَرَد على زجاج صالونات زعماء صنعوا أوطاناً صغيرة وحقيرة على مقاس طوائفهم ومصالحهم وتحالفاتهم.
ويكاد لم يسقط مواطن لبناني واحد إلّا وحَظي بلقبين. لقب الشهيد الذي تضعه جماعته نيشاناً على صدر نهجها، ولقب القتيل الذي تعيّره به الجماعة المناهضة، وكما لو أنه لم تكن تكفي القتيل قساوة الموت حتى تتناتَش جثته الأحزاب المسعورة، لترقص بنعشه زنود مفجوعة وتوزّع البقلاوة أيادٍ مبتهجة.
والشهادة ليست نسبية ولا تحتمل وجهان، ولا يمكن مناقشتها على المنابر وفي الندوات والمؤتمرات. فالشهادة كاملة وصافية وسامية، وهي إمّا في سبيل الله أو الوطن. وطالما أنّ الله لا يمتلك حزباً في لبنان ولا قطعة أرض أو مؤسسة مزدهرة، وبما أنّ كلّ المعارك والحروب استفردت بخوضها فئة دون أخرى في لبنان من أجل مصالحها الخاصة ونكاية بالآخرين… فإمّا نتّفق جميعنا أنّ كل لبناني ولبنانية قُتلوا في أي معركة أو اشتباك منذ تأسيس لبنان هم شهداء، وإمّا نحن بحاجة ملحّة إلى تعريف الشهادة، ومن أجل تعريفها لا بدّ أولاً أن نتّفق على العدو… من هو العدوّ؟
وعندما يكون الكلام بلا كفوف، لا يخفى على أحد أنّ قسماً يريد إسرائيل عدوّة، وقسماً يريد سوريا عدوّة، وقسماً الفلسطينيين، وقسماً أميركا، وقسماً إيران، وقسماً فرنسا أو تركيا أو دول الخليج، وإذا تحقّقنا أكثر سنجد جماعات في لبنان تختزن عداء لدولة ليختنشتاين أو القطب المتجمّد الجنوبي. ونحن مبدئياً لم نتّفق على عدو واحد، وإلّا كنّا جميعنا تجنّدنا لمحاربته باسمنا كلبنانيين، وليس كأفراد ملوّنين ومنضوين تحت اسم حزب أو حركة أو تيار. ويا ليتنا صرفنا مجهوداً لمحاربة أعدائنا أكثر ممّا صرفنا أزمات لفرض عدوّنا على الآخرين، وإجبارهم على الاعتراف بإديولوجيتنا.
وحتى لو كان هناك أعداء كثر يربضون خلف الحدود والمتاريس وأبواب السفارات، إلّا أنّ أكبر عدو لنا وأشدّه ظلماً يعيش بيننا، يحمل هويتنا ويتحدّث باسمنا ويخاطب بمصالحنا ويتنفّس هواءنا. وعدوّنا لم يكن يوماً خارج الحدود، بل كان دوماً هذا الذي يوهمنا أنه صديق ولا ينفكّ يجتذب الأعداء من كل حدب وصوب ليجد معارك تُبقيه على قيد الحياة، وقضية مفصّلة على مقاسه ليصرف فيها أكبر عدد من «القتلى» أو «الشهداء».
العدوّ خارج الحدود يقتلنا مرّة واحدة برصاصة أو قذيفة أو صاروخ، أمّا عدوّ الداخل فيقتلنا في اليوم ألف مرّة بسلاح متسلّط أو فساد وسرقات وتجاوزات وتَرفّع على القانون والمحاسبة. عدوّ الخارج يطمع مرّة واحدة بشيء في بلدنا، أما عدوّ الداخل فيطمع كلما شرقت الشمس بلقمتنا وتعبنا وشقائنا واستقرارنا وأمننا وصحّتنا وأموالنا وجنى عمرنا، وينتظر ظهور القمر حتى يسرق أحلامنا أيضاً.
من هو عدوّنا؟.. عدوّنا هو الذي يحرمنا الاستشهاد من أجل أن نقتل مجاناً في معارك وهمية ينفخها الحاضر كالبالون وسرعان ما سيثقبها التاريخ. عدوّنا هو الذي حرمنا العيش بسلام لأنه لا يعرف العيش بلا حرب. عدوّنا هو الذي يبيعنا كل ما هو غالٍ فينا من أجل الكراسي الرخيصة والألقاب الخاوية والمجد الباطل.
وأنا ما همّي إذا كنت قتيلاً أو شهيداً طالما أنني لم أعِش يوماً كإنسان، ولم أحلم كإنسان ولم أنجح كإنسان… وأنا ما همّي إذا كنت قتيلاً أو شهيداً طالما أنّ معركتي لم تنته ضدّ ساكني القصور المدفوع ثمنها دماء شبّان لبنان وشابّاته، وضدّ ناهبي مدخراتنا وثرواتنا، وضد المتاجرين باسم الله على رفوف الطوائف.
لا بدّ أن نقتنع بأنّ عدوّنا واحد بوجوه وأسماء وأعلام كثيرة، حتى لا نسقط قتلى من أجل فلان بل شهداء من أجل لبنان.