تلاقت الإرادتان اللبنانية والاسرائيلية على توجيه دعوة عاجلة الى الوسيط الاميركي في مفاوضات الناقورة عاموس هوكشتاين للعودة إلى المنطقة للحؤول دون اي عمل عسكري «يخربط» الوضع فيها، ويقودها الى حيث لا يريد أحد في مثل الظروف التي تعيشها المنطقة في ظل تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، ما يدفع الى منع اي حرب في الشرق الاوسط أيّاً كان سببها او حجمها. فلماذا حصل هذا التطور؟
منذ اللحظة الاولى لعبور سفينة وحدة إنتاج الغاز الطبيعي المُسال Energean power قناة السويس في اتجاه المنطقة الاقتصادية لفلسطين المحتلة بقيت اللهجة الديبلوماسية طاغية على المشهد الجنوبي، خصوصاً في اللحظات التي اقتربت فيها من الخط 29 من دون أن تتجاوزه. وبعدما اكد لبنان على لسان المسؤولين، ولا سيما منهم وزير الخارجية عبد الله بو حبيب بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري، رفض لبنان ما يقودُ الى الحرب، بقيت اللهجة الإسرائيلية «مضبوطة» على موجتين لا ثالث لهما.
ففي مقابل مجموعة من التصريحات اللبنانية المتخصصة في شؤون الترسيم بجوانبه التقنية والقانونية والبحرية وتلك التي لم تلامس الملف من قبل، والتي تحدثت عن دور المقاومة في منع اسرائيل من استخراج نفطها وتعدد السيناريوهات التي يمكن ان تقوم بها لـ«حماية الثروة النفطية» بقيت المواقف الإسرائيلية محصورة بالموجتين الدفاعية والعسكرية. وبعد تأكيد وزير الدفاع الاسرائيلي في أول تعليق له انّ «الخلاف مع لبنان في شأن حقل الغاز الحدودي سيتم حله عبر الوساطة الأميركية»، نقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن قائد المنطقة العسكرية الشمالية في اسرائيل أمير برعام، أمس الاول انه في حالة الحرب مع «حزب الله»، لن «يُبقي الجيش الإسرائيلي حجراً على حجر». وأضاف، عشيّة ذكرى حرب تموز 2006 متجاهلاً المواقف اللبنانية الرسمية، أن «حزب الله» يحاول «فرض التحديات أمام إسرائيل لكن تلك التحديات ما تزال مردوعة جدا». وادّعى أن «الاستقرار الأمني على الجبهة الشمالية الذي نتج عن هذه الحرب هو خير تأكيد على قوة الردع التي خلقتها»، مختتماً بالقول «ان الجيش الإسرائيلي يرصد حركة نشطاء «حزب الله» في منطقة السياج الحدودي»، محذّراً من أنهم «سيدفعون الثمن، في النهاية».
على هذه القواعد نشطت المراجع الديبلوماسية والعسكرية في مراقبة ما يجري بُغية الاحاطة بأي جديد يمكن ان يطرأ في ظل الدعوة العاجلة التي وجّهتها الحكومة اللبنانية الى هوكشتاين قبل ان تتخذ اي قرار يمكن اللجوء اليه، من خلال إصدار مرسوم تعديل المرسوم 6433 كما هَدّد الرئيس نبيه بري كوسيلة بديلة من التدخل الأميركي المباشر والسريع لمواجهة أمر الواقع الجديد الذي فرضته اسرائيل بوصول الباخرة الى حقل كاريش. فسواء انتقلت إلى شمال الخط 29 أو بقيت جنوبه فهي تمركزت فوق الحقل عينه تمهيدا لبدء عمليات سحب الثروة الغازية والنفطية وسط ترتيبات خاصة بالبنى التحتية التي أنجزت من قبل وستسمح بنقل الغاز فورا الى المنشآت المتكاملة الجاهزة لبيعه واستثماره في الداخل او الخارج.
ويدرك المراقبون الديبلوماسيون منهم كما العسكريين انّ ما تقوم به الباخرة ليس استطلاعاً ولا استكشافاً، فهذه المرحلة انتهت اسرائيل منها قبل سنوات. ولمن لا يدرك ذلك فإنّ «شركة الطاقة البريطانية اليونانية Energean، التي نقلت باخرتها نهاية الاسبوع الماضي الى المنطقة، هي التي تمتلك حقوق استثمار حقول غاز كاريش منذ عام 2016. وانّ خطوتها الاخيرة تهدف الى ربط المنصة بخطوط النقل لاستخراجه في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة».
وعليه، فإنه على رغم من التقارير غير الرسمية التي نشرت، وجاءت بالباخرة الى شمال الخط المحكي عنه في المنطقة البحرية المتنازع عليها قبالة المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان وهو ما يشكّل اعتداء على الثروة اللبنانية او العكس، فإنّ الخيارات الديبلوماسية ما زالت متقدمة على الخيارات العسكرية الاخرى الى أجلٍ لا يستطيع أحد التكهّن به قبل وصول هوكشتاين إلى المنطقة وتبيان الموقف اللبناني ممّا طرحه في زيارته لبيروت في 8 شباط الماضي. فهو، وحتى الاتصال الأخير به قبل يومين، لم يعتبر انّ لبنان أعطاه جوابا على مقترحاته السابقة. وهو التزم بطلب لبنان عندما أودعه ايّاها خطياً تمهيداً لنيله أجوبة خطية لم تصله بعد. فهوكشتاين لم يغير اقتراحاته السابقة وأصرّ على تجاهل الخطوط المقترحة فوق سطح البحر ليتحدث عن طريقة رسمها تحت الماء بما يتماشى واشكال الحقول المكتشفة مبدئياً، سواء تلك الخاصة بحدود حقل «كاريش» الاسرائيلي او «قانا» اللبناني» بعيداً من اي منطق آخر.
وفي التوقعات الديبلوماسية والاستخبارية انّ اي تحرك عسكري من الجانبين غير محمود العواقب في المرحلة الراهنة لأسباب عدة، وهو أمر بات الجميع في لبنان والمنطقة على علم به. وابرز الأسباب التي استندت اليها هذه التحذيرات، انّ المنطقة لا تتحمل مثل هذا التحرك العسكري الذي قد يخربط الستاتيكو القائم على حَد السكين بين الإنفجار والانفراج. وان الجهود مُنصبّة لتوفير حاجات السوق العالمي عموماً والاوروبي خصوصاً من إنتاج الطاقة لتكون بديلاً من الغاز الروسي المقنّن بفِعل العقوبات والحصار المفروض على موسكو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما تسبّب به قطع خطوطه في اتجاه عدد من الدول الجارة لها. وهو ما ادى الى ارتفاع اسعار الغاز العالمية الى ما يزيد على 243% في غضون اسابيع قليلة تَلت بدء الغزو في 24 شباط الماضي، كما تسبّب بارتفاع اسعار المازوت والمشتقات النفطية الاخرى بعدما اضطرت دول اخرى الى الاستغناء عن الغاز الى المازوت والمشتقات النفطية الاخرى فارتفعت بحدود الـ 195%.
وانطلاقاً ممّا تقدّم، تُرجّح التقارير الواردة الى بيروت من اكثر من عاصمة غربية وعربية ان تأخذ الديبلوماسية الاميركية مدعومة من مجموعة من القوى الدولية الاخرى مَداها الاقصى من خلال الزيارة التي ربما ستكون الأخيرة لهوكشتاين إلى المنطقة قبل التفكير بأي عمل عسكري من اي جهة كانت وعلى مستوى القوى التي تمتلك قرارها المحلي او تلك التي تُدار من الخارج. صحيح انّ اليد على الزناد، ولكن النتائج في حال استخدامه لن تكون نزهة بالنسبة الى لبنان قبل غيره من دول المنطقة. فالمعركة ستكون على أرضه وعلى ابواب صيف واعد، وانّ اي خطأ او دعسة ناقصة ستكون كارثية بالمعنى الحقيقي للكلمة.
وبناء على ما تقدّم، تبدو الصورة اكثر وضوحاً من قبل، فليس في العالم من هو على استعداد لمواجهة آثار مثل هذه العملية العسكرية التي لا يستطيع أحد ان يحدّد لها اي نهاية ان تم تأريخ انطلاق شرارتها. وعلى هذه المعطيات يمكن التكهّن بما ستقود إليه المساعي المبذولة وسط اعتقاد كُثر بأنّ المهل باتت قصيرة وانّ مسلسل المفاوضات اقترب من نهايته بما يترتّب عليه من قرارات عاجلة لم تعد تتحمّل التأجيل المعتمَد منذ سنوات. فالحاجات الدولية الى اي إنتاج اضافي من الغاز قد تدفع الولايات المتحدة الى ترتيب علاقات فنزويلا وإيران الدولية من أجل استخدام إنتاجها تعويضاً عن النقص من الغاز الروسي. فهل تحتمل ان تتفرّج على إنتاج في شرق المتوسط يمكن استثماره قبل نهاية الصيف المقبل على أبواب خريف بارد ستُعانيه اوروبا والعالم ما لم يتوافَر البديل سريعاً؟ وهي ملاحظات لا يمكن تجاهلها وهي تتجاوز اي معطيات أخرى محلية كانت او اقليمية او دولية، وانّ مرحلة استنساخ سياسة النعامة في طمر رأسها في الرمال قد وَلّت.