IMLebanon

الطاقة والبيئة أولويَّتان

 

 

الحرب الروسية على أوكرانيا حولت اهتماماتنا الى مواضيع آنية تنعكس على حياتنا كما على مستقبلنا كمجتمع دولي. قبل الحرب، كان موضوعا الطاقة والبيئة أولويتين لكن الحرب ومؤقتا حولت الاهتمام الى الأمن والدمار وما ينتج عنهما مباشرة من نتائج. أهمية الحرب أنها أفهمتنا مدى ارتباط الاقتصاد الدولي بالغاز والنفط الآتين من روسيا كما مدى ارتباطنا جميعا بالانتاج الزراعي الآتي من البلدين المذكورين. أوروبا فهمت اليوم خطورة الاعتماد على مصدر أساسي للطاقة المستوردة وتحاول التنويع النوعي والجغرافي ولو متأخرة. معظم الدول يحاول تنويع استيراده الزراعي ولو مع تكلفة أعلى. يحتاج العالم الى الكثير من الطاقة كي ينتج ويستهلك ويسير أمور الدول والسكان. عندما تنتهي الحرب الروسية الأوكرانية يعود العالم الى اهتماماته العادية أي اختيار الطاقة المناسبة التي تحترم التحديات البيئية.

 

أي طاقة نريد؟ العالم واعٍ لخطورة اهمال البيئة وتأثيرها السلبي على المادة والانسان، لكن العمل الجدي لمكافحة التلوث غير موجود في أكثرية الدول. يقول الاقتصادي «روبرت فرانك» انه لا يمكن الغاء التلوث دون إحداث خضة كبيرة في الانتاج. يجب اختيار مستوى التلوث الأدنى الممكن حفاظا على النمو ومنعا للتسمم. هنالك من يقول أن السياسيين يضخمون الخطر البيئي تماما كما ضخموا سابقا الخطر السكاني وانتشار المجاعة أو فقدان الغذاء وغيره. لذا بعض المواطنين لا يصدقونهم وهم أصلا غير مقتنعين بالخطر البيئي، تماما كما بعض الذين يرفضون أخذ اللقاح ضد الكورونا بحجة انه يسبب المرض ولا يصلح للوقاية. بعض هذه الإجراءات هو نوع من التأمين ضد المخاطر، تماما كما نشتري بوالص تأمين على السيارة والمنزل والصحة.

 

ما هي أحوال الطاقة بدأت من النفط الذي تتقلب أسعاره كثيرا وترتفع مؤخرا بسبب الحرب؟ الطلب على النفط يقوى ويضعف تبعا لحاجات الاقتصادات المختلفة خاصة الصناعية. في بداية 2021 وبعد ان تدنى خطر الكورونا ارتفع الطلب وبدأ الاقتصاد العالمي ينمو من جديد أي 5,9% هذه السنة مقارنة بانخفاض 3,1% في 2020 تبعا لصندوق النقد الدولي. عرض النفط لم يتجاوب كما يجب بسبب سياسات الدول المصدرة التي حفاظا على مصالحها، أبقته محدودا. ارتفاع أسعار النفط يسبب التضخم العالمي الذي يؤثر سلبا على معيشة المواطن خاصة الفقير. قالت «أنديرا غاندي» أن الملوث العالمي الأكبر يبقى الفقر».

 

قبل الحرب وتجاوبا مع رغبة وإصرار الدول الغربية المستهلكة، قامت الدول النفطية بزيادة محدودة للانتاج. انخفضت الأسعار تدريجيا لكنها تعود اليوم الى الارتفاع بسبب أحوال العرض الروسي كما بسبب القلق العالمي تجاه الأوضاع المتردية في آسيا التي تنعكس سلبا على الاقتصاد العالمي. ينسى العالم اليوم الكورونا ليركز اهتمامه الكلي على الحرب التي ليس لها فقط انعكاسات مادية واقتصادية وانما خاصة انسانية وبيئية كبيرة. في كل حال وفي كل الظروف لا يمكن أن ننسى التأثيرات البيئية للنفط بالاضافة الى التكلفة والكمية والنقل والتضخم.

 

استهلاك النفط وكافة المحروقات ينتج ثاني أكسيد الكاربون وبعض الغازات السامة التي تفرض تنظيف الهواء والمياه ومؤشرات الحياة استمرارا لنوعية العيش. جميع المؤتمرات آخرها غلاسكو هدفت الى منع الحرارة الأرضية من الارتفاع لتأثيرها المباشر على المياه والطقس والتربة والمحصول الزراعي والحياة البشرية والحيوانية وغيرها. الجميع يقدر التأثير السلبي للمحروقات على البيئة حتى في الدول المصدرة لها. لا يمكن الاستمرار في الأوضاع العادية الى ما لا نهاية، وبالتالي وجب اقرار الخيارات الممكنة لتجنب الخسائر. البدائل الكافية والآمنة للأسف غير متوافرة.

 

هنالك محاولات في أهم الجامعات ودور الأبحاث لتطوير التكنولوجيا المخففة للتلوث، لكنها لا يمكن أن تلغيه بالرغم من بعض النجاحات الواضحة. التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي وغيرهما من التطورات التكنولوجية الحديثة تساهم فقط في تخفيف استعمال المحروقات. مشكلة البيئة هي أيضا أخلاقية وبالتالي اذا لم يقتنع المواطن بدوره العملي الكبير في تخفيف التلوث فلا يمكن أن تنجح السياسات العامة المتخصصة. هنالك قطاعات أساسية مستهلكة للطاقة بدءاً من الصناعات الكبيرة (30%) الى البناء (18%) والنقل (15%) وخاصة الطيران الى التدفئة والكهرباء والتي لا يمكن الاستغناء عنها أو اهمالها. نذكر هنا أن وزيرة البيئية النمساوية أتت بالقطار من فيينا الى غلاسكو أي ساعات طويلة بدل استعمال الطيران بسبب التلوث. هذه رسالة واضحة قبل أن تكون سياسة جديدة للمسؤولة النمساوية. هنالك محاولات لاستعمال البدائل أي الطاقات الشمسية والهوائية والحرارية والمائية والنووية لكنها غير كافية.

 

مشكلة الشمسية انها تحتاج الى استثمارات كبرى في المعدات كما الى أراض شاسعة واسعة لوضعها عليها،بالاضافة الى أن هنالك مناطق في العالم لا تصل اليها الشمس حتى جزئيا. في كل الحالات هي ليست مصدر طاقة دائم. يمكن القبول بالشمسية كداعم لطاقات أخرى وليس كمصدر وحيد أو أساسي. مشكلة الهوائية تأثيرها السلبي على البيئة وعلى العيش قربها. فالصوت الذي تحدثه يسبب الأمراض خاصة في حاسة السمع. هنالك اذاً ضغط شعبي كبير لتخفيف استعمال الهواء لانتاج الكهرباء. أما المائية، فلا تتوافر في الدول البعيدة عن البحر أو الأنهار، وبالتالي استجرار المياه له كلفته ويؤثر على العلاقات الدولية كما هو الحال بين مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى. أما الحرارية، فانتاجها مكلف وتقنياتها غير متوافرة للجميع بالاضافة الى المخاطر البيئية.

 

هنالك وعي دولي اليوم بأن الطاقة الوحيدة البديلة الكافية هي النووية بالرغم من أخطارها كما حصل في «فوكوشيما» اليابانية وقبلها في الولايات المتحدة واليوم في أوكرانيا. في البرنامج الانتخابي للرئيس ماكرون في 2017 وعد بتخفيف الاعتماد على النووي لانتاج الطاقة، لكن بعد سنوات في الحكم تبين له أن هذا غير ممكن. لذا قرر في 9 تشرين الثاني الماضي بناء محطات نووية جديدة، وهي الأولى منذ عقود. ألمانيا نادمة على الغاء النووي كمصدر للطاقة وتشعر بالذنب بسبب مشكلتي سلامة واستمرارية الامدادات النفطية والغازية الروسية. فالنووي بالرغم من تكلفة بنائه والخطر الكامن في أنظمته، يظهر أنه الأمل الوحيد للعالم اذا أراد تخفيف استهلاكه للنفط والمحروقات احتراما للبيئة.

 

أيهما أفضل؟ نفط يلوث أم نووي نظيف لكنه شديد الخطورة؟ لا يمكن للدول الفقيرة ولأكثرية الدول الناشئة أن تستثمر في النووي، فهي غير قادرة ماليا وغير مجهزة تقنيا. التطور التكنولوجي لتخفيف مساوئ التلوث مهم، لكنه لن يكفي لالغاء التلوث كليا. الخيارات متاحة للجميع ضمن معايير التكلفة والتكنولوجيا كما البيئة.