لا يبين الشَبَه إلا في البُعد. موكب ثلاثي ابتعد، فبانت فيه ملامح الشَبَه التي كنّا نظنّها فوارق. ثلاثة مختلفين يشكّلون صورة متكاملة لمنشأ واحد: لبنان السابق، المختلط بألوان الغروب، ملبّداً كالحاً وأرجواناً جارحاً. ثلاثة نشروا سُمعته في البلدان. جورج جرداق ناثراً وشاعراً، وصباح مواويل وفساتين وحناجر، وسعيد عقل شاعراً، مقلِّدوه كثيرون، ولا يُدرك تقليده أحد.
تلك كانت، “المدرسة اللبنانية”. أي البيت اللبناني البسيط الذي يُعيد نحت نفسه وإعلاء أعمدته وتلوين حديقته وتحويل الحياة إلى فرح: مُضحكات جورج جرداق، وصناجات صباح، وسيوف سعيد عقل. أو رماحه. خرجوا، مثلما يخرج الروّاد، من برج التحدّي. المجتمع الريفي الذي يتوهّم المدينة صعبة وعصيّة ورافضة البسطاء، فما أن يحلّ فيها، حتى يُصبح هو بَريقها، بل يحملها على أن تتبعه، يُصفّق لجورج جرداق، ويرنرن مع صباح، ويحلّق مع سعيد عقل فوق الشعر والنحت والجمال وقمم الصناعة والصياغة.
في تلك المرحلة، كان ذوو الموهبة المسيحيون ينشأون في طقسين ومناخين: اللغة الأم وآدابها، والفرنسية وجذاباتها. والثانية لم تحمل إليهم فقط الجمال الأدبي كالعربية، بل علّمتهم الثورة والعشق ومحاربة الظلم بالقلم والفكر. عندما ألغت فرنسا قبل أعوام قليلة راسين وكورناي من البرامج المدرسية، احتجّ على القرار رجل واحد: سعيد عقل. لقد كان ذلك اعتداءً على القرن السابع عشر، الذي وُلد هو فيه. راجع بنت يفتاح.
ظلّ الثلاثة يعملون حتى أقامت الشيخوخة حاجزها على أعتابهم. دخل سعيد عقل نفَق النسيان، من غير أن ينسى أن عليه أن يفيق في اليوم التالي ليُكمل ما بدأ: إصلاح العالم وإعادة لبنان إلى مرافئ صيدا وصور. لم يُضِع لحظة واحدة في الفكاهة. لم يكتب كلمة واحدة، على خفّة أو تخفُّف. لم يغزِل إلا في الكتاب ومن أجل الشعر، يطوّع القوافي مثل سِوار، ويفرشها مثل قِلادة.
آن لي أن أعترف أنني لم أكن أُحب آداب الرجل ومبالغاته. كان يُثيرني أنه يعيش في عالم مصنوع، وليس في عالم حقيقي. عالم يريده، لا عالماً ممكناً يضمّه مع بقيّة الناس. لكنني كنت كلما عُدت إلى شعره، رأيت فيه جمالات المستحيل في ملاعَبة اللغة. كم جعل الاستحالة قافية، أو صدراً.
الجزء الماتيماتيكي فيه، الذي طالما تَباهى به، أعانه على أن يعيش في حال التحدّي الدائم. وإذا كان قد تماهى دوماً مع بول فاليري، صاحب “جون بارك”، فلأنه مثله مكوّن من رياضيّات وشعر. وقد قلّده في كل شيء: في أن يكون شاعراً هندسياً. وفي أن يكون سياسياً وطنياً، وفي أن يكون أستاذاً جامعياً. الفارق الجوهري: لبنان ليس فرنسا. وهو فارق يَبين في الحياة ويتفجّر في الموت. فاليري أقيمت له ثانية الجنازات الوطنية بعد فيكتور هيغو. وأما المسيو هيغو، فقد سارَ في جنازته مليونا إنسان. كان يقول: “لن أعود قبل أن تعود الجمهورية”. سعيد عقل دخل نفَق النسيان وهو يودّع الحياة، والجمهورية تودّع نفسها. ليس هناك مِن رئيس يأمُر له بجنازة وطنية. والطريق إلى زحلة مقطوع بالمخاوف. و”وطن النجوم” تغيب نجومه في مواكب. أو في مجرّات، كما كتبت رلى راشد.
كان في عصر سعيد عقل، مائة كوكب. مجرَّة من الشعر والرمز والتجديد في بلد بحجم بلدة فرنسية. لم يبرَع أحد في خليط الحداثة والكلاسيكية مثلما برع هو وأتقن وأبدع. كان والده معمارياً وهو كان يكتب الشعر بـ”الشاقول”. مقياس الذرّة ودقّة العمّارين الذين يشعرون بعفوية، أنهم يعمِّرون لكي يبقى البناء إلى مدى البقاء. لا خفّة في قياس حجر الزاوية.
كان ينام حالماً بعالم فاليري، ويفيق في عالم ضيّق، مكتظّ، مُسرع ومُتعجّل. ضخَّم حجم زحلة من أجل أن يكبر بها أكثر. جعلها إمارة مستقلة الآداب والآفاق، وشيئاً من صيدا أو صور بلا موانئ. لكنه كان يكتشف دائماً أنه ليس فيها سوى مكتبة صغيرة، تتسع للجرائد أكثر مما لبعض كُتبه التي أضحت عناوين في الذاكرة ودائرة المحفوظات والدراسات.
في عصر سعيد عقل كان الشعر في لبنان مثل المعلّقات في الجاهلية. يقرضه الشعراء وينظمه النظّامون ويلهج به أهل العامية، حتى صار سعيد عقل يقلّد ميشال طراد كما قلّد شوقي بيرم التونسي. والكتابة بالعامية مثل الكتابة بالحرف اللاتيني، مثل الكتابات السياسية المتهوّرة أو المُغالية. كانت حماقات رجل لم تحصّنه مواهبه في الرياضيات. كان سهلاً أن يُحب وسهلاً أن يتهوّر في غضَبه، بما لا يليق، لا به ولا بمعشره.
كان يعتقد نفسه منذ بداياته، أنه يُعطى للأشياء، وليست تُعطى له. لذلك، تنقَّل ما بين القومية السورية والقومية العربية قبل أن يستقرّ على قومية لبنانية فينيقية بدَت نوعاً من الغلوّ أيام كانت القومية العربية تسعى خلف كينونتها. ومع ذلك، فإن العرب غفروا له السقوط السياسي بسبب العلوّ الشعري. وكان من أوائل المعزّين، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في حركة بارعة من مسلك السماح وذِكر محاسن الموتى.
كان عماد “المدرسة اللبنانية” وعلامتها أن أهلها أبدعوا في صناعة الذات. أشرقت صباح، كما أشرقت فيروز، كما حلّق سعيد عقل، من بيوت بلا شُرفات، ليساهموا في جعل لبنان “شُرفة العرب”، كما كان يصفه الملك فيصل بن عبد العزيز. واشترك سعيد عقل مع الأخوين رحباني في مدّ “جسر القمر” بين لبنان والعرب، وبين اللبنانيين في ما بينهم من ظُلمات.
صانت فيروز صوتها بخبائها. لم تفعل ما فعله صباح ووديع الصافي. لا غناء في كباريه، ولا ظهور في مطعم، ولا مقابلات صحافية غير مُعدّة ومكتوبة ومصحّحة. هكذا أصبحت فيروز، هي “أريستوقراطية” الصورة في الغناء اللبناني، مثل أم كلثوم في مصر. والباقي “شعبيّون” ودرجة أخرى. وقد لعبت “النهار” دوراً كبيراً في رسم ذلك المناخ. فلم يطلّ فيها سعيد عقل “الكلاسيكي” إلاّ قليلاً. ولم تُفتح الأبواب لصباح إلاّ في إعلانات الأفلام. وكان وديع بعيداً عن أذواق المحرّرين. احتلّت فيروز “النهار”، بصورتها وهالَتها، وعلَّقت نفسها أيقونة في الوجدان وعلى الجدران، وغنّت لسعيد عقل أيقوناته العربية الثلاث: مكة، والشام، وأجراس العودة.
الشعراء، مثل الأمهات، ليست لهم أعمار. لا يعني شيئاً أن تقول إن سعيد عقل مات بعد المائة، أو أن أبولينير مات بالحُمّى الإسبانية في الثانية والثلاثين. سوف نفتقدهم لأنهم لا يتركون ورَثَة سوى أنفسهم. بعد يوم واحد من وفاة إديت بياف، مات شاعرها وصديقها جان كوكتو. كأنها منحَته فرصة أن يرثيها، فقال إن من صدرِها الضيّق، كانت تَصدر آهات الليل. يوحّد الشعراء والفنانون في غيابهم الناس الذين اختلفوا حولهم في حياتهم. قال كوكتو: كانت بياف مثل البلبل الذي تسمعه من غير أن تراه. وهكذا ستبقى.
لاحظ الشَبَه الذي بلا نهايات: الأغنية أشهرت صباح. وجورج جرداق اشتهر في العرب بعدما غنّت له أم كلثوم “هذه ليلتي”، وفيروز حملت إلى كل عربي في جبال الأطلس، أو في جبال اليمن، “غنّيت مكّة”.
كانت هناك مجموعة من المواهب والخوارق تتلاقى على إحياء لبنان السابق. قمرٌ فوق بعلبك، والندوة اللبنانية في ساحة الدباس، والمكتبة الوطنية في ساحة النجمة، وكوكبة من مائة شاعرٍ وأديبٍ يَبرُقون في سماء الشرق.
وعندما كان يأتي إلى الندوة ضيف من مثل هالات ناظم حِكمت، أو شولوخوف، من كان يُكلَّف تقديمه؟ اللاهوتي سعيد عقل، الذي أعاد تفسير الأناجيل والخطبة وثورة الهيكل، وفقاً لما أراد للمسيحية أن تكون. والباقي سيوف ورماح شآم يا ذا السيف لم يغِب! وفي تكريم بولس سلامة المُقعد قال: “يا مغمداً تحمي العُلى/ من ذا تكون إذا تسَل”.
لا تغيب السيوف في شعره حتى وهو يهدُل أو يغزل. سيفٌ حالمٌ مثل سيف دون كيشوت. هذا هو سميّه الحقيقي وندّه الحقيقي. لكن طواحين لبنان، لا طواحين لامانشا. منفرداً مثله كان. يحيط نفسه بغموض الوجود ورَهْبة الابتعاد. يوزّع الجوائز والإمارات الشعرية بدَل أن يقبَلها. ومثل روبرت فروست، شاعر “القومية الأميركية، يجول بين الكبار على أنه أكبرهم، يُصافحهم كأنه سمحَ لهم بمصافحته. ظلّ هكذا مَشيق القامة والنفس ما زاد على القرن.
ثلاثة في موكب واحد. كان هذا عصر الطاقة والغزارة والنزول عن مصاطب البيوت الرملية، لاعتلاء المنابر.