الاحتجاجات حيوية لا بد منها في أي مجتمع. مجتمع لا احتجاج فيه هو مجتمع لا حياة فيه. يبقى ان الاحتجاجات اذا تتابعت تخلق شعوراً بالتعبئة الدائمة، بأن الأمور ستبقى تراكم هكذا، وصولاً الى «نهاية الليل الطويل».
هذا الشعور يلعب في فترة معينة دوراً ايجابياً بالنسبة الى الاحتجاجات، لكنه لا يلبث ان يصير عليها وطأة، ويجعلها تتورّط في تحويل ذاتها علّة لذاتها، مستقلّة عن لائحة مطالب ملموسة، محسوسة، تصدر عن عمق اجتماعي مستنفر، ومصالح ناس من لحم ودم متضرّرين.
اذاك فجأة يبدأ الانحسار، ويقابل بالمكابرة، وبلمح البصر تختفي الجموع، يصير الطليعيون وحدهم، يتراشقون التهم، يضيعون في المتاهات، ومن بعد ذلك بسنوات طويلة ينهض من بينهم من يقرّ بأن حلم التعبئة العامة للجمهور او الجماهير هو وهم.
هذه النظرة اشترك فيها معظم قادة الثورة الطلابية اواخر الستينيات حين تكلموا عنها بعد عقد او عقدين على قيامها. كانوا يعتقدون بالتعبئة العامة، بأن حيوية تسند نفسها بنفسها ستبقى تزودهم بطاقة الدفع اللازمة. لكن هذا لا يحصل. لا يحصل الا اذا حفظت الطاقة في اطار، وانتقلنا من لاواقعية التعبئة الدائمة الاحتجاجية الى واقعية التعبئة الدائمة المؤطرة في أحزاب.
كثير من النقاش الجاري اليوم في البلد يحصل كما لو ان التظاهر هو معطى فوق القوانين السوسيولوجية، وان الاحتجاجات مسألة ارادوية، سواء كانت ارادة نقية او غير ذلك. هذا ليس صحيحاً، الديناميات الميدانية لا يمكن توقعها سلفاً بهذا اليسر، لا من جهة السلب ولا من جهة الايجاب.
ليس هناك من تعبئة جماهيرية احتجاجية دائمة بلا انقطاع. هذا مؤكد. الراجح ايضاً ان الظن بهذه الديمومة التعبوية يولد مضاعفات سلبية لاحقاً.
اذاً «قانون حفظ الطاقة» هو هنا اساسي. في كل احتجاج، في كل انتفاضة، هناك طاقة يخسر من يظنها تلقائية الصدور عن ذاتها بذاتها والى الدوام، وينجح من يدرك ان النار لا تثبت على مقدار، وانها تختفي او تعود، والجمرة تضيع في الرماد او تلتهب، كل بحسب شروطه المستفادة.
لم يعد ممكناً الاكتفاء باخراج السجال من الشارع الى المؤسسات كما تقول المعزوفة التقليدية، لأن المؤسسات في حالة يرثى لها. لكن، تغييب الطرح الانتقالي للامور من شأنه ان يعيد صناعة وجه الشارع على صورة مؤسسات الدولة نفسها.
الطرح الانتقالي يعني في المقام الاول اعادة الاعتبار لعامل الوقت. لا يمكن القيام بمعركة دائمة ولا بتظاهرة دائمة. كما لكل معركة موقع، لكل معركة زمن حد اقصى. وفي المعارك السياسية ينتصر من ينجح في «حفظ الطاقة».
الصيف كان فصلاً لانفجار الاحتجاج، والاحتجاج سيستمر في الخريف لكن بوتيرة مختلفة، ذلك ان قضايا اخرى، ومجدداً المسألة السورية، والتدخل الروسي والايراني واللبناني في سوريا، ستعود وتفرض أجندة اكثر تشعباً على جدول اعمال اللبنانيين، اجندة تفرض الى جانب الحراك والمشكلة البيئية، مناقشة اكثر احاطة بالجوانب الاخرى للازمة. الازمة دستورية قدر ما هي اجتماعية، ومرتبطة بمسار الحرب في سوريا ليس اقل مما هي مرتبطة بأي محدد داخلي لها.