هناك شبه إجماع في الرأي العام اللبناني على أن وضع الأحزاب والجهات الحاكمة والمتمكنة يعاني من تراجع ملحوظ في الرضى الشعبي على أوضاع البلاد وأحوالها المختلفة في هذه البلد المنكوب، خاصة بعد الكارثة التي حلّت ببيروت وأهلها وأدّت إلى تعميق المأساة اللبنانية بهذا الكمِّ الهائل من الدمار والمآسي الإنسانية والعمرانية والحضارية التي طاولها الإنفجار الملغوم بشتّى أنواع الإحتمالات والتصنيفات، والذي تمّ تغليفه بأقصى أنواع التكتّم والتستّر وإخفاء الحقائق عن الناس، خاصة منهم من طاولتهم الماساة وحطمتهم الكارثة الرهيبة التي ما زالت حتى الآن غارقةً في مهاوي التجهيل والتلطّي وتجاهل حجم الماساة.
إن الأحداث الرهيبة التي تكثّفت وتوالت على البلاد، خاصة منذ الإنتفاضة الشعبية التي ضمّت إليها جموع المواطنين والمعانين والثوار، والتي أفلحت جهود السلطة وسلاح ميليشياتها في كبتها وتفريق أركانها، وهي أحداث تجسدت في تهاوي شروط الحياة الكريمة في مجمل أنحاء الوطن حيث بات الإقتصاد في درك جهنّمي، والجوع يلتهم الناس المستورين، وسبل الحياة تغرق في مهاوي الإذلال والتحطيم المعنوية، كما هي الحال في تلك الجموع التي تقطع أوصال الحياة في اصطفافاتها المخيفة أمام محطات الوقود والصيدليات وما تبقى من مؤسسات تتعاطى بالشأن الغذائي.
كل ذلك، كان دافعا لنا لتوقع كل هذه الأحداث الخطيرة التي باتت تدفع بجماهير المدن والقرى والمناطق كافه إلى تصرفات مستنكرة وإن كانت مبررة بحجم المعاناة، متمثلة بقطع الطرقات ومهاجمة منازل الوزراء والنواب والمشكوك بعلاقاتهم المشبوهة بسرقة ونهب أموال الناس، بمن فيهم أولئك الذين أفنوا زهرة أيامهم وأعمارهم في لملمة بعض المدّخرات وأولئك الذين ارتاحوا إلى سلامة الوضع الإقتصادي المزعوم في بلادهم، فأودعوا حصيلة كفاحهم ومباطحتهم العملية في مصارف هذا البلد الذي غشّهم بريقها ولمعان أوضاعها، فإذا ببعضها موئلا لنهب وسرقة ودائع الناس، وبعضها الآخر ضحية من ضحايا المسؤولين الماليين المتحكمين بمفاصل الحياة العامة التي سلّمت الناس وأموالهم إلى أوضاع «جهنمية» كان معظمها ثمرات مرذولة من «فضائل» هذا العهد القوي ولواحقه من الأقرباء والمستشارين والناصحين والتابعين.
ونقف أمام بيت القصيد في ما قدّمناه له أعلاه:
نقف أمام النتائح المذهلة التي أسفرت عنها إنتخابات نقابة المهندسين حيث جاءت نتائجها مؤكدة على ما كان البعض يتوقعونه لجهة بوادر اهتزاز الطبقة الحاكمة والمتحكّمة وسقوطها المذهل في الإنتخابات المذكورة حيث لم يفلح تآلفها وتكتلها وكل استعداداتها في تجنب الخسارة المدوّية التي شكّلت نموذجا حيّا لمجمل التطورات التي حصلت خلال السنوات القليلة الماضية، وانتهت بتدهور العملة الوطنية إلى حدود التلاشي والإنفلات الجهنمي المتفاقم والمفتوح على شتى أنواع الإنهيارات المريعة، فكانت انتخابات نقابة المهندسين بنتيجتها المذهلة، مشفوعة بنتائج بعض إنتخابات نقابة المحامين، ونتائج إنتخابات الروابط الطلابية في الجامعات الكبرى، أنموذجا إستباقيا لمستقبل الأوضاع التي يأمل المواطنون أن تؤدي إلى نقلهم من حال التراجع والإنهيار والإذلال، إلى عودة ما بصيغة ما، تحفظ لهم ما تبقى من ركائزهم الوطنية والحياتية بحد أدنى من إيقاف عملية التصدّع وحالات الإرتطام الجنمية المتوقعة بكل أحوالها المأساوية.
ولا بد لنا في هذا المجال، أن نعرّج على موقف جديد آخر لغبطة البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي أشار في إطلالته الأخيرة إلى أن الجماعة السياسية إياها، تمدّ يدها اليوم لتسرق أموال المودعين من خلال السحب من الإحتياط الإلزامي في مصرف لبنان، وكأنها تريد تمويل حملاتها الإنتخابية من أموال المودعين، وهذه جريمة موصوفة، فأي قرار حكومي أو تشريع نيابي يقرُّ هذا السحب، إنما يستوجب الطعن فيه لدى المرجع القضائي المختص. غريب أمر هذه الجماعة السياسية التي تحلل لنفسها مدّ اليد إلى أموال الشعب، وتُحرّم على نفسها، تأليف حكومة الشعب.
ad
وبعد: هل تكون انتخابات نقابة المهندسين وسوابقها المذكورة أعلاه، توطئة ونموذجا لتحولات وطنية أساسية باتت بعض ظواهرها ملموسة ومحسوسة، في وقت لامست الأحزاب السياسية فرادى ومتجمعة ومتكتلة، مواقع التراجع والضمور والخضوع القسري إلى منطق التاريخ القديم والحديث، فلا الأوضاع الجيدة تدوم، ولا الأوضاع السيئة التي نعاني من جهنمها الملتهبة والمستفحلة في هذه الأيام، هي الأخرى تدوم، ومهما تأخر الظرف المناسب، فإن دلالات التغيير قد بدأت بالبروز، ولبنان على علّاته الكثيرة، يستأهل دفعةً هامّة من التخلّص من هذه الأوضاع النتنة التي تنهش أسسه وكيانه، وآخر مظاهرها المؤسفة تلك الفذلكات التي باتت تدعو إلى الفدرلة وقلب أوضاع النظام القائم على أسس طائفية ومذهبية، وذلك جنوح إلى تطرّف غير مقبول وغير ممكن التحقق في الأحوال والأوضاع اللبنانية شديدة الحساسية والتداخل والتعقيد.
المحامي محمد أمين الداعوق