Site icon IMLebanon

المشروع البريطاني «السرّي» للتغيير في لبنان

 

تتمتّع بريطانيا بسمعة عطرة من حسن النيّة والرفق لا تستحقّها في العالم العربي. نتعامل وكأن الامبراطوريّة التي غابت عنها الشمس والقمر لم تعد موجودة بيننا، وأنها – بسبب اضمحلال دورها نظراً إلى بروز «القرن الأميركي» – باتت مستكينة ووديعة لا تعكّر على العرب صفو حياتهم. وسفراء بريطانيا في بلادنا يبدون، خصوصاً على مواقع التواصل، غير سفراء أميركا، مثلاً. سفراء صاحبة الجلالة يجيدون العربيّة (فيما يتدرّب سفراء أميركا على مدى سنوات للفظ كلمة «شكراً» أو «فلافل»)، وهم يتواصلون مع محليّين على وسائل التواصل، والسفير البريطاني الأخير كان ينشر صوراً عن إعداده لأطباق لبنانيّة (مثل «الفطّوش»، حسب تهجئته) وتكاد تخال أن هؤلاء السفراء أحباب وأقرباء لنا. يكاد طبق «فطّوش» السفير البريطاني ينسيك وعد بلفور. لكن الأطباق تلك ليست إلا واجهة أعمال قبيحة.

 

لا، قد تكون سفارات دول كندا وبريطانيا أخطر من سفارات أخرى، لأن الشعب العربي لا ينظر إليها بعين الريبة والشك، ويظنّ أن المؤامرات البريطانيّة زالت من بلادنا. صحيح أن السفارات الكنديّة في بلادنا، مثلاً، كانت أكثر براءة من غيرها، لكن كل ذلك تغيّر في التسعينيّات عندما ضربت الحركة الصهيونيّة في أميركا وكندا النفوذ الموالي للعرب في الحكومة الكنديّة. تحوّلت السياسة الكنديّة جذرياً مذذاك. أما بريطانيا، فإن تـآمرها وتدخلاتها الصفيقة في بلادنا لم تتوقّف للحظة. وينسى البعض أن الاستخبارات البريطانيّة كانت اللاعب الأكبر في المشرق العربي – إضافة الى «الوكالة اليهوديّة» التي لم تكن تتمتّع بموارد المخابرات البريطانيّة وخبرتها وتمرّسها – في النصف الأوّل من القرن العشرين حتى الستينيّات.

 

في لبنان، نحن نتحدّث عن دولة لم يكن استقلالها المُحتفى به أكثر من عمليّة استخباريّة بريطانيّة سريّة بواجهة «أذناب الاستعمار»، بحسب وصف جورج حجّار. وكانت الطبقة السياسيّة في أركانها البارزة خاضعة في الولاء والتشغيل للمخابرات البريطانيّة. لم تبدأ المخابرات الأميركيّة بالتفوّق على منافساتها إلا في الستينيّات، وكانت سنة ١٩٥٨ مفصليّة في تنشيط عمل المخابرات الأميركية.

لكن بروز الدور الأميركي لم ينهِ الدور البريطاني أو الفرنسي (هناك مغزى في أن يشغلَ سفير فرنسي سابق في لبنان منصب مدير المخابرات الفرنسيّة). السفارات البريطانيّة تنسّق مع السفارات الأميركيّة، كما أن دول الغرب تتعامل بتنسيق وتشارك شامل: كل دول الغرب، مثلاً، تشاركت في ائتلاف خبيث للاستغلال السياسي لاغتيال رفيق الحريري. وعندما يقول دونالد ترامب إن على دول التحالف الغربي المشاركة في دفع نفقات العمليّات الأميركيّة، فإنه يشمل بذلك العمل العسكري والاستخباري على حدّ سواء. وبريطانيا هي واحدة من دول «العيون الخمس» – وهو اسم لتحالف استخباري بالغ السريّة بين أميركا وبريطانيا ونيوزلنده وأستراليا وكندا؛ أي إن بريطانيا تشارك في عمليّات سريّة مع الحكومة الأميركيّة وحلفائها.

يكشف كتاب المؤرّخ الإسرائيلي مئير زمير (المختصّ في التاريخ اللبناني)، بعنوان «الحرب الأنجلو – فرنسيّة السريّة في سوريا ولبنان، ١٩٤٠-١٩٤٨» الكثير عن تغلغل المخابرات البريطانيّة في أوساط الطبقة السياسيّة في سوريا ولبنان. والكتاب مبنيّ على وثائق استخباريّة سريّة، فرنسيّة وبريطانيّة، في الأرشيف الفرنسي، بعضها لم يرَ النور قبل نشر الكتاب في ٢٠١٥. نحن نتحدّث عن «النادي» (بحسب تسمية المؤرّخ البريطاني جون كيمحي، شقيق الموسادي ديفيد كيمحي الذي قاد الوفد الإسرائيلي في مفاوضات العار التي أفضت إلى اتفاقيّة ١٧ أيّار)، الذي ضمّ ليس فقط كل مستعربي الحكومة البريطانيّة في مختلف الإدارات في الدولة والسفارات، بل أيضاً في شركات النفط والكتّاب والصحافيّين ومن لفَّ لفهم من المحليّين (راجع جون كيمحي، «الأعمدة السبعة المنهارة: الشرق الأوسط، ١٩١٥-١٩٥٠»، ص. ٧-٨). وكما في أميركا، فإن صفة المستعربين لا تعني البتّة أن هؤلاء يؤيّدون القضايا العربية، بل هم أحسنوا استغلالها لصالح نشر الهيمنة البريطانيّة (راجع زامير، ص. ٨). وزامير على حقّ في أنه تجب إعادة كتابة تاريخ المشرق العربي بناءً على نشر هذه الوثائق التي تكشف بصراحة وتوثيق تعامل – لا نتحدّث عن تعاون – شكري القوتلي وجميل مردم ورياض الصلح مع الحكومة البريطانيّة، ليس كما يُقال لنيل الاستقلال بقدر ما كان لنشر الهيمنة البريطانيّة (زامير، ص. ١٥). والوثائق تكشف دور بريطانيا السرّي في إيصال رياض الصلح مرتيْن لرئاسة الحكومة (١٩٤٣ و١٩٤٦). وقد حثّ الصلح، مقابل ذلك، حماه، سعد الجابري، على عدم مواجهة الحكومة البريطانيّة. وقائمة الأشخاص الذين جنّدتهم المخابرات البريطانيّة في حينه طويلة وتضم: حسنين باشا (مستشار الملك فاروق) ومحسن البرازي وميخائيل اليان وفايز الخوري وخير الدين الزركلي (مستشار الملك عبد العزيز) ومدحت شيخ الأرض (الطبيب الخاص للملك عبد العزيز) وكميل شمعون. وكانت شركة نفط العراق الواجهة التي استخدمتها بريطانيا لأعمالها السريّة وأغراض التجنيد، إضافة إلى شركة الطيران البريطانيّة («بي.أو.إي.سي.»). وتميّز الوثائق بين الذين نسّقوا وفق التوجيهات السياسيّة البريطانيّة وأمدّوا بريطانيا بالمعلومات، وبين من قاموا بأنفسهم بـ«عمليّات استخباراتيّة» (ص. ٨٠، من كتاب زامير)، مثل كميل شمعون ومحسن البرازي. وكان «المستشار الشرقي» الشهير في السفارة البريطانيّة في بيروت، مارون عرب، المُنسّق لهذه الأعمال. ورياض الصلح هو الذي ارسل إلى الديبلوماسي البريطاني، السير جفري فرلونج، عبر مارون عرب، عرضاً في آذار ١٩٤١ لتقديم الخدمات ضد فرنسا، واستمرّ تعاونه هذا حتى اغتياله (ص. ٨٣).

المناسبة في الحديث عن تاريخ العمل البريطاني السرّي هو تسريب حزمة من الوثائق من قبل «أنونيموس» ونشرها من قبل موقع «مون أوف الاباما». وقبل ثلاثة أشهر، تم تسريب وثائق عن دور قوي وناشط للحكومة البريطانيّة في تنظيم وتمويل ونشر بروباغندا لصالح المعارضة السوريّة المسلّحة. طبعاً، لم يكترث الاعلام العربي لذلك، كما أنه لا يكترث لكل ما يمكن أن يضرّ بسمعة طغاة الخليج وحلفائهم في الغرب. ويبرز في الوثائق عن المعارضة السوريّة المسلّحة ولبنان الدور الهائل للشركة البريطانيّة، «إي.آر.كي.»، ومقرّها دبي، وهي تضم خبراء حكوميّين (ديبلوماسيّين واستخباريّين) بريطانيّين «متقاعدين». ويبدو أن الشركة لا تعمل فقط لصالح الحكومة البريطانيّة، بل تقوم بأدوار مشتركة مع الحكومة الأميركيّة وحكومات أخرى. وقد أصبحت الشركة خبيرة في البروباغندا وفي إعداد وتدريب «ناشطين» (النشاط ضروري للسياسات الغربيّة، لأن الكسالى غير مرغوب فيهم). وقد درّبت الشركة في الشأن السوري أكثر من 1400 مستفيد، ووزّعت أكثر من 53000 قطعة معدّات، وأقامت شبكة دعائية تضمّ 61 صحافيّاً و17 فريقاً موزّعين، و14 محطة إف.إم. و11 مجلّة محليّة ومحطتيْن تلفزيونيّتيْن. أما في لبنان، فالوثائق قد تكون أشمل.

هل يمكن تصنيف الوثائق أنها عمل استخباري بريطاني؟ لا. لكن الفارق بين العمل الديبلوماسي الغربي والعمل الاستخباري الغربي يكون أحيانا تقنيّاً، لأن عملاء المخابرات يعملون تحت غطاء السفارات وبعلم السفير نفسه (حدّثني السفير الأميركي العتيق في سوريا والعراق، ويليام إيغلتون، عن أن المخابرات الأميركيّة كانت تزرع في السفارات الأميركيّة حول العالم عملاء لها من دون علم السفراء، لكن بعد انكشاف عدد من هؤلاء واضطرار السفراء إلى الكذب، تمّ التوصّل إلى ترتيب يكون السفير المعنيّ مُبلّغاً سلفاً بهويّة الجواسيس المزروعين). لكن ما نتحدّث عنه هنا هو عمل استشاري من قبل السفارة البريطانيّة وشركات متعاقدة معها (محليّة وبريطانيّة)، ليس فقط بهدف تصنيع رأي عام (وهذا عامل مهم ينشط فيه الغرب ودول الخليج بصورة يوميّة في لبنان: ما معنى مثلاً ان يكون أول أو ثاني هاشتاغ في لبنان مُصنّعاً وبصورة مبتذلة ومفضوحة من قبل حسابات محمد بن سلمان الإلكترونيّة؟)، بل أيضاً لتأجيج عمل سياسي للتغيير، ومن دون مواربة أو ستر أهداف.

نستطيع أن نضع هذه الوثائق في سياقها الصحيح لو أننا قارنّا بالتالي: لو أن السفارة اللبنانيّة في لندن قامت بما تقوم به السفارة البريطانيّة في بيروت، بحسب الوثائق (من حيث تنظيم جمعيات وأعمال وأنشطة وتأثير على أهواء الرأي العام والتدخّل في سياسات داخليّة محليّة وحرفها في هذا الاتجاه أو ذاك) فإن من الأكيد والحتمي أن السفير سيُطرد من بريطانيا وأن عمل السفارة سيجمّد وأن وزارة الخارجيّة البريطانيّة كانت ستصدر بياناً شديد اللهجة يندّد بخروج السفارة اللبنانية في لندن عن العمل الديبلوماسي المحض وعن مخالفتها للمواثيق الدوليّة. يظهر من الوثائق أن السفارة البريطانية تدير عملاً نشطاً بالاشتراك مع شركات وجمعيّات وشخصيّات من أجل بلورة رأي عام والدفع باتجاه سياسات معيّنة، تصبّ في مصلحة أجندة الحكومة البريطانيّة ومن يعمل معها في هذا الصدد.

ويظهر في الوثائق كم أن شركة «إي.آر.كي.» عريقة في عملها السياسي والبروباغندي في لبنان، إذ هي تقول عن نفسها في وثيقة إن للشركة «تجربة واسعة في التنفيذ بالنيابة عن حكومة صاحبة الجلالة في لبنان»، بما فيها «التواصل الاستراتيجي من خلال تطوير عناوين أعمال مثل «حثّ على الاقتراع» و«قم بعمل» ضمن إطار مشاركة سياسيّة شبابيّة، و«قلم رصاص» و«ناستوفيا» في المخيّمات الفلسطينيّة». ولا تنسى الوثيقة أن تذكر أن عمل الشركة يتضمّن ضمان حصول «تغطية» إعلاميّة محليّة لأنشطة هذه الشركة، التي تنفّذ أعمالاً أيضاً بالنيابة عن الحكومة الأميركيّة. وعندما نشاهد نشرات «المحطات الثلاث»، نلاحظ أنها باتت شرائط مقطّعة وغير مترابطة – ومدفوعة الثمن – لإعلانات بروباغندا سياسيّة (مثل نقل كلمة بالكامل لديفيد هيل أو إبراز خطب لسياسيّين مغمورين لكن يحظون بمباركة الحكومات الغربيّة). هذا كلّه يدخل في نطاق عمل الشركة المذكورة. ومثل توثيق «الأعمال القذرة» لحكومات الغرب في بلادنا، فإن الوثائق تغطّي على عورات أعمالها عبر إسباغ مصطلحات تقنيّة، مثل «الاستقرار الاجتماعي»، حتى لو كان ذلك يتسبّب في إشعال قلاقل محليّة.

لكن يجب الإقرار بأن أعمال الحكومات الغربيّة في بلادنا تلحظ المساواة بين الجنسيْن، وهي تتحدّث بإسهاب عن العمل الوثيق مع شخصيّات نسائيّة (لكن السؤال: هل يمكن لهذه الحكومات مثلاً أن تعمل مع، وأن تدعم، شخصيّات نسائيّة ممن يدعمن مقاطعة إسرائيل أو ممن يعارضن سياسات الغرب، أم أن سياسات الدعم الجندريّة تكون كما كانت وتكون في أفغانستان حيث تقوم الحكومة الأميركيّة بتنصيب نساء من «أزلام» الاحتلال الأميركي وتصوير ذلك على أنه نصرة للمساواة الجندريّة (طبعاً، حكومة أفغانستان الشيوعيّة كانت الأكثر نسويّةً في تاريخ أفغانستان). والسفير البريطاني الأخير نشر قبل أشهر صوراً لنساء من مخيّم برج البراجنة قمن بإعداد أطباق لحضرة السفير وأصدقائه، ووصف ذلك على أنه من ضمن عمل «تمكين المرأة» العربيّة (ولم يكن يمزح). هذا هو نموذج للعمل الجندري لسفارات الغرب.

والذي يطالع كمّ الوثائق بصفحاتها وأسماء الشركات (من شركات تأمين إلى عقد طويل ومعقّد مع شركة «ساتشي أند ساتشي» للاعلانات والبروباغندا (هي نفس الشركة التي صاغت شعارات ثورة «الأرز والبطّيخ» في لبنان، وهي التي صاغت شعارات النظام الأردني عبر السنوات الماضية)، يدرك كم ان حجم الأعمال والأنشطة التي تقوم تحت عمل السفارة البريطانيّة لا يدخل أبداً في نطاق العمل الديبلوماسي. هناك وثيقة تتحدّث عن ضرورة «التعاطي مع الاهتمامات والتوتّرات، لكن من دون لفت الانتباه إلى وجودهم بحدّ ذاته». وهناك وثيقة تتحدّث عن أن الحالة الأمنيّة قد تتدهور إلى درجة يمكن لها أن تؤثّر على عمل العمليّات المذكورة، من دون معرفة إذا ما كان تدهور الحالة الأمنيّة سيكون من نتاج أو ثمار هذه الأعمال. هناك خشية في الوثائق من إدراك السكان المحليّين لما تقوم به السفارة، أي إن خداع الناس وتضليلهم والكذب عليهم يدخل من ضمن الأعمال المذكورة. كما أن هناك إشارة إلى حساسيّة السكان إزاء التدخلات الخارجيّة، أي إن طابع السريّة والتضليل يسهم في التخفيف من تأثير هذه الحساسيّة.

ولا تمانع السفارة البريطانيّة، من يتشارك معها في هذه العمليّات، من التعاون المباشر مع أطراف سياسيّين ممثّلين في الحكومة. هناك فصل في وثيقة عن اتحاد بلديات المنية، التي تقول الوثيقة عنه إنه مترابط مع «تيار المستقبل». لكن هذا لم يمنع التنويه بـ«أننا قد أقمنا علاقات ممتازة مع الاتحاد وسجلّاً قوياً من التعاون». وتعاون المشروع مع الشباب ومع مرشحات لمناصب بلديّة، أي إن «تيّار المستقبل» يستفيد مباشرة من هذا العمل. لكن: ما حكم القانون اللبناني في تدخل وتمويل أجنبي في انتخابات محليّة أو نيابيّة؟ أم أن تدخّل السفارة البريطانية لا يرتقي إلى مرتبة تدخّل، لأن دول الغرب تتدخّل تحت إطار «المجتمع الدولي» الذي يمون كثيراً على الشعب اللبناني، وبات من أهل البيت وعظام الرقبة. ويعقد واحد من المشاريع الكثيرة «خلوات» خاصّة بـ«مُحدِثات التغيير»، أي نساء يحظين بمباركة المشروع الخاص بذلك، لكن المشروع لا يحدّد معايير انتقاء «مُحدِثات التغيير». فهل نائلة معوّض وصولانج الجميّل وبهيّة الحريري من «مُحدِثات التغيير»، مثلاً؟

 

بروز الدور الأميركي لم ينهِ الدور البريطاني أو الفرنسي وكل دول الغرب تتعامل بتنسيق وتشارك شامل

 

 

وهناك مشروع لـ«التعاطي الشبابي السياسي»، وهو يتحدّث عن «إمكانيّة كبيرة للشباب كقائد للتغيير الإيجابي (من يحدّد التغيير الإيجابي، يا ترى؟ سفير بريطانيا أم أميركا أم الاثنان معاً؟) والتنمية والاستقرار». لكنه يورد من دون اعتراض وجود «مجازفة في الاستقرار» من جراء الأعمال هذه. وهناك مشروع مموّل يتحدّث بصفاقة عن ضرورة تحفيز «تفكير شعور وطني طازج» لتحدّي «الخيارات» القائمة. هنا، هذا مشروع يشبه عمليّات تغييريّة كانت أميركا تقودها في دول أميركا اللاتينيّة لكن بمصطلحات أقلّ حداثة من هذه الوثائق. ويعدّد المشروع «المتلقّين» من هذا المشروع الشبابي: «الجامعات والمجموعات الشبابية والحركات الاجتماعيّة وحركات الـ«أون.لاين» وأعضاء في مجلس النواب وأحزاباً سياسيّة وبلديّات». وكل هذا لا يتعارض مع اتفاقيّة فيينا، بحسب تفسير أمثال ناصيف حتي وسليم جريصاتي، الذي اعتذر من سفيرة أميركا في بيروت لأن قاضياً نبيلاً وشجاعاً اعترض على خرقها للقانون اللبناني ولاتفاقيّة فيينا.

والأخطر ممّا يظهر في الوثائق، موضوع قلّما يشغلنا في صحافة المعارضة الجذريّة، هو موضوع دراسة الرأي العام من أجل التأثير عليه. إن الكثير من الإنفاق الدعائي لدول الغرب في بلادنا يتعلّق بهذا الموضوع، لأن صناعة الرأي العام وقولبته تحتاجان إلى دراسة مستفيضة له. ويتضح من هذه الوثائق أن الحكومة البريطانيّة لا تقوم فقط بإجراء استطلاعات رأي عاديّة، بل تعقد ما يسمّى «فوكوس غروب» (أو «جماعات تركيز»، في إشارة إلى مساءلة مجموعة تكون أصغر من عيّنة الاستطلاع بهدف معرفة كل تفاصيل الآراء وخلفيّاتها وربطها بمواضيع محدّدة وتفصيليّة وإجراء اختبارات على شعارات ومواضيع معيّنة). ويظهر هنا أن الشركة الملزّمة قامت بعقد حلقات «فوكوس غروب» في النبطية وسعدنايل والضاحية والجديدة وعين علق وعكّار وطرابلس. لماذا هذه البلدات دون غيرها؟ ولماذا تمثيل الجنوب أقل من غيره؟ ولماذا لا تمثيل للبقاع؟ هذه أسئلة لا يجيب عنها إلا السفير الذي يعرض أطباق التبّولة و«الفطّوش» على صفحته على تويتر. واستطلاعات الرأي المفبركة تؤثّر في الرأي العام من حيث قدرتها على تغيير وجهاته، لأنها توحي للمواطن والمواطنة بأن أكثريّة الناس تكون في موقع معيّن، حتى لو لم تكن في ذلك الموقع. أفضل مثال على فبركة الاستطلاعات كيف أن شركة «زغبي» (شريكة لنظام الإمارات) و«مؤسّسة واشنطن» الصهيونيّة نشرتا بعد أيّام فقط من حفلة التطبيع الخليجيّة نتائج استطلاعات تلائم التطبيع، وإن كانت لا تتوافق مع أي استطلاعات أخرى (مثل الاستطلاع الشامل لـ«المركز العربي»)، من أجل الإيحاء بأن التطبيع يحظى بشعبيّة. ويتضح من استطلاعات شركة «آي.آر.كي.» غير المنشورة (وأفضل الاستطلاعات هي غير المنشورة، لأن المنشورة تكون أحياناً غير دقيقة أو «مستوحاة»، كما الاستطلاعات اللبنانيّة مثل تلك التي ينشرها ربيع الهبر، الذي قرّر قبل أسبوع أن أكثر من نصف الشيعة باتوا ضد الثنائي الشيعي، يعني أن عدد الأصوات التي نالها إبراهيم شمس الدين (62 صوتاً) قد يرتفع إلى 67 صوتاً).

 

من أخطر ما ورد في التقارير هو مدى تغلغل العمل التجسسي البريطاني في المخيّمات الفلسطينيّة

 

 

استطلاع الشركة المذكورة كان مهماً، لأنه ظهر فيه أنه من بين كل المواضيع التي تزعج الرأي العام لا يظهر سلاح حزب الله بينها. هنا تقوم أجهزة دول الغرب بالعمل على تغيير ما لا يعجبها في الاستطلاعات من أجل تغيير نتائج الاستطلاع في السنة المقبلة. كما أن استطلاعاً حول آراء السكّان في لبنان إزاء مختلف الدول (بينها إيران والسعودية وأميركا وروسيا وبريطانيا) يظهر أن إيران وروسيا أكثر شعبيّة من بريطانيا وأميركا والسعوديّة، فيما تحظى الأمم المتحدة بتأييد كبير.

قد يكون من أخطر المواضيع التي وردت في التقارير هو مدى تغلغل العمل البريطاني غير الديبلوماسي في المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان. إن نشاط دول الغرب في المخيّمات يفوق تدخّل محمد دحلان فيه، وقد يفسّر هذا مدى تغير مناخ الرأي العام في المخيمات الفلسطينيّة في لبنان. كانت المخيّمات مصانع للثورة ومحفزاً للتغيير في لبنان وفلسطين، فيما يلتهي الكثير من أبنائها وبناتها هذه الأيّام في صراعات طائفية ومذهبيّة وفي مشاغل فنيّة لا علاقة لها بتحرير فلسطين.

لبنان ليس دولة كي لا نقول إنه لا سيادة فيه في ما يتعلّق بدول الغرب. إن السفارة البريطانية والأميركيّة تحددّ لجوزيف عون، مثلاً، برنامج عمل الجيش على الحدود، وهما أمرتا ببناء أبراج مراقبة، ليس لرصد شوالات البطاطا التي يحرص عون على إلقاء القبض عليها (ونشرت مديريّة التوجيه في الجيش صور تلك الشوالات) بل لمنع إمداد السلاح لأي مشروع لمقاومة إسرائيل في لبنان. لن تقوم ضجّة في لبنان بسبب هذه الوثائق. لا، سيكون هناك ردّ فعل عكسيّ ضد هذه الوثائق وضد نشرها على مواقع التواصل، وسيُقال إن كل هذا ليس إلا إيماناً غبيّاً بنظريّة المؤامرة. وسيسخر الشباب اللبناني الـ«كول» من نشر هذه الوثائق، وسيسأل عن تدخّل إيران وفنزويلا في لبنان. لكن هذه المرّة عندما نتابع ردّ الفعل على المواقع وفي الإعلام، سنكون على علم بأنها ليست إلا جزءاً من وثيقة من هذه الوثائق التي نتحدّث عنها.