اعلان الحكومة وأزمة النزوح السوري
يرافقان المبادرات والإنفراجات المتوقعة
كان ذلك قبل بضعة أشهر، وكان رؤساء السلطات، يبحثون عن سلطة تقود الحكم ولا تقود المهيمنين على السلطات، وقف زعماء البلاد يبحثون عمن بامكانه قيادة البلاد الى شواطئ الأمان والاستقرار. يومئذٍ بادر الرئيس نبيه بري الجميع بعبارة واحدة: الحكم للدستور، والحاكمون والمحكومون يكونون تحت سلطة الدستور.
في بدايات عصره في رئاسة مجلس النواب قصد الرئيس بري فرنسا، في زيارة استطلاعية، أكثر منها رسمية. توجه أولاً الى قصر الاليزيه، والتقى الرئيس شارل ديغول، وتوجه من ثم الى مجلس الشيوخ الفرنسي واجتمع الى خبراء كبار في الدستور. ثم قصد الجمعية العمومية الفرنسية، وصعد الى الطبقة الثانية في البرلمان الفرنسي. وحضر جلسة أسئلة وأجوبة لمدة ساعتين، وتوجه من ثم الى مكان هادئ، وقال للمحيطين به إنه يود أن يقصد المكان الذي ولد فيه الدستور. لقد اصغيت الى فرسان البرلمان، وأريد أن أعرف ولو في التاريخ – ما كان يفعله رواد قصر الاليزيه.
صمت الرئيس بري هنيهة وأردف: أريد فعلاً الوقوف على ما كان ينتاب النواب والشيوخ وأريد أيضاً أن استفهم أساليب تحركت بصماتها في التاريخ، أمضى رئيس البرلمان قرابة الساعة، في الإصغاء الى ما رواه له مؤرخون عما كان يحدث، وتوقف وقتاً طويلاً عند قرار البطريرك الماروني الحويك عن ارادته في تكبير لبنان، وطي صفحات غابرة عن تصغيره.
عندما كان الرئيس بري يغادر قصر الاليزيه نطق بحكمته التي ذهبت مثلاً في التاريخ: لبنان الصغير لا يمكن أن يعيش، ولبنان الكبير لا يمكن أن يعيش أيضاً اذا لم يفهم الجميع الحكمة، من وراء تكبير لبنان، التصغير يقتله، والتكبير يهلكه اذا لم يفهم اللبنانيون الحكمة من وراء التكبير والعلة بسبب التصغير.
كانت الطريق تستغرق قرابة الساعة، بين قصر الاليزيه والعاصمة الفرنسية، وطوال تلك المدة، قال الرئيس بري للذين رافقوه ان الحكمة تذهب هباءً منثوراً، اذا لم يفهم اللبنانيون حكمة البطريرك الحويك عندما دعا الى ضم الأقضية الأربعة الى لبنان الصغير.
هذه الحكمة كانت تراود الرؤساء الثلاثة على رأس السلطات، عندما غادر الوفد الفرنسي القصر الجمهوري يوم الجمعة الماضي.
وبادر الرئيس سعد الحريري رئيس مجلس النواب بقوله: ان في البلاد ثلاث سلطات اساسية، وعندما يحترم رئيس الجمهورية، سلطات رئيس مجلس النواب، وينحني رئيس مجلس الوزراء أمام صلاحياته، لا تعود في البلاد ازمات بحاجة الى الحل.
وأمام معضلة تأليف الحكومة الجديدة، قال الرئيس سعد الحريري: انا متفاهم مع نفسي، ومتفاهم مع دستور بلادي، ومتفاهم مع اللبنانيين والدستور ينص على ان التأليف الحكومي ينضج عندما يتفاهم الرئيس المكلف مع رئيس الجمهورية على طبيعة تشكيل الحكومة، يتم استدعاء رئيس مجلس النواب الى القصر الجمهوري وتصدر مراسيم تشكيل الحكومة بأقل من ربع ساعة.
وسأله أحد الوزراء في الحكومة المستقيلة، لماذا إذاً، لم تنضج ظروف التشكيل الوزاري.
ورد الرئيس سعد الحريري، لان هناك بعض المطالب السياسية عند بعض رؤساء الكتل، لا بد من معالجتها بحكمة وحنكة، قبل اصدار المراسيم.
هل كان سعد الحريري مغالياً في ما ذهب اليه من آراء!
والجواب: لا، لأن من حق السياسيين الامعان في الشروط، كما من حق الآخرين الامعان في طي الشروط، وهذا من طبيعة النظام الديمقراطي.
في أيام الوصاية السورية، على لبنان، كان معظم الكتل يغرّدون خارج الدستور، لان تلك السلطات كانت معارضة لنظام الطائف، عندما حمله وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل الى دمشق. الا انه، بعد اجتياح الجيش العراقي للكويت في عصر الرئيس صدام حسين، اضطرت جهات عربية ودولية الى الاستعانة بالجيش السوري، للمساعدة على تحرير الكويت. وهذا ما جعل سوريا تنضم الى الذين صنعوا اتفاق الطائف، وتنفذه على ذوقها.
يومئذ، عمد الرئيس السوري حافظ الاسد الى الإيعاز لنائبه عبد الحليم خدام، وللرئيس غازي كنعان الى التغيير في أولويات النظام، خصوصاً في المناطق المتاخمة لسوريا، في البقاع وعكار، وفي ذلك الوقت جعلوا منطقة الشمال دائرة انتخابية واحدة، وجعلوا من محافظة البقاع مجموعة دوائر، لا دائرة واحدة.
ويروى في هذا المجال، ان العميد غازي كنعان سمع على الهاتف الاستاذ ايلي الفرزلي نائب رئيس مجلس النواب، يقول ان سوريا اخطأت في اللعب السياسي والإداري في اتفاق الطائف، وهذا يسيء الى النظامين اللبناني والسوري. لكن الفرزلي رد بانه يدافع عن الدستور، ولا يراوغ في شرح الإتفاق الذي ارتضاه اللبنانيون، لدى اجتماعهم في مدينة الطائف، وسط رضى دولي وعربي.
ولذلك، فان الرئيس ايلي الفرزلي الذي كان ينسق مواقفه مع الرئيس نبيه بري، يقول الآن وعلى الرغم من مغايرة الكثيرين، انه وفقا لآرائه الشخصية، يؤيد حكومة أكثرية ومعارضة أقلية في طبيعة التأخير في إخراج مراسيم الحكومة الجديدة، لان الطائف لا ينص على جعل البرلمان حكومة مصغرة لان النظام الديمقراطي ينص صراحة على وجود حكومة تحكم، وعلى وجود معارضة تحاسب في البرلمان.
إلا أن الرئيس سعد الحريري يريد حكومة موسعة، يتمثل فيها البرلمان بمعظم أعضائه، لا حكومة تجعل البرلمان في صراع مستمر مع الحكومة، وهذا الرأي يحظى بمباركة رئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء، ولا يتعارض مع توجهات رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
طبعاً، لا أحد يشارك تكتل المستقبل في رغبته بالإحتفاظ بالوزراء من الطائفة الاسلامية السنية، ولا أحد يؤيد تفرُّد الاستاذ وليد جنبلاط بالوزراء الدروز الثلاثة، ولا يسعى حزب القوات اللبنانية إلى نيل الحقائب السيادية وفقا لنتائج الإنتخابات النيابية، إلا ان معظم الكتل تشارك الوزير جبران باسيل العائد من الولايات المتحدة، في معارضة احتكار أي حزب أو جهة أو كتلة نيابية للوزارات الأساسية، وهذا ما ينطبق على الكتل السياسية الأخرى، ولا سيما من الثنائي الشيعي الذي يضم حركة أمل وحزب الله.
طبعاً، يدور الصراع، حول حصة رئيس الجمهورية من الوزراء، وما إذا كان الحل بضم نواب إلى التركيبة الحكومية من العناصر المستقلة التي تضم النواب عبد الرحيم مراد، وفيصل عمر كرامي، ونواب زغرتا من أمثال الوزير السابق اسطفان الدويهي، والنواب الجدد من أمثال الأستاذ طوني سليمان فرنجيه.
إلا أن ظاهرة عدم احتكار كل طائفة لوزراء بمضمونها الأكثري، في طوائفهم ليست قاعدة يصح اعتمادها في معظم المناطق، وذلك ان النائب طلال ارسلان كان في السابق والوزير السابق وليد جنبلاط على قائمة واحدة، لكن الخلافات الراهنة جعلتهما في مواقع عدائية. وهذه علة أساسية في طبيعة النظام الديمقراطي، إلا ان البلاد تبدو وكأنها تعيش نصف نظام ديمقراطي، لأن الحياة السياسية تبدو متباينة أحياناً عن مفاهيم النظام الديمقراطي.
إلا أن التفاهم بين الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري، على موقف واحد، من عودة النازحين السوريين إلى سوريا، ولو وفق ترتيبات زمنية، يؤدي، كما يقول العماد عون إلى رجوع قرابة تسعماية ألف نازح إلى سوريا، في رعاية روسية، وقد أوفدت السلطة الروسية وفداً كبيراً الى لبنان قابل الرؤساء الثلاثة، بعد انتقاله من الأردن إلى بيروت.
والملاحظة الأساسية، ان ثمة توافقاً بين الرؤساء الثلاثة على عودة السوريين إلى بلادهم، في رعاية ظهرت من الروس، بان عودة النازحين إلى بلادهم لا ولن تواجه بمعارضة النظام السوري، لرجوعهم إلى بلادهم.
والحقيقة، أن السوريين نزحوا الى لبنان، بتشجيع من السلطة التركية والسلطة القطرية، وليس لأسباب طائفية فقط وهذا ما يجعل العودة مطلوبة وملحاحة، وتتم في ظروف اجتماعية هدفها العمل بتؤدة على إعادة ترميم الأماكن السورية التي تعرضت للخراب والدمار.
وفي المعلومات ان سوريا منفتحة على الحلول المعروضة وليست متمسكة بأن ينال المغادرون بركة ورضا وموافقة الرئيس بشار الاسد وأركان نظامه من العودة.
وفي المعلومات أيضاً ان المقترحات الروسية مبنية على مساعدة لبنان على حل العبء الكبير الذي تمثله أزمة اللجوء السوري.
ونقل عن الموفد الروسي السيد ألكسندر لافريتيف الذي زار لبنان، على رأس وفد دبلوماسي وعسكري رفيع، أن موسكو أبلغت الرؤساء عون وبري والحريري، انها تتفهم العبء الكبير الذي تحمله لبنان نتيجة النزوح السوري، والأزمة العسكرية في سوريا بعدما شارفت على نهايتها. وهذا ما يراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يعتبر أن عملية إعادة الإستقرار بدأت بوضوح، وهذا ما يسمح بعودة اللاجئين، ويؤمن ظروفاً مؤاتية لها، بحيث تكون طوعية، كما أن الخطة تشمل العودة من تركيا والأردن ولبنان.
وهذا ما جعل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يرحب بما حمله إليه الموفد الروسي.
ويقول خبير دستوري، ان المبادرة الروسية في العام ٢٠١٨، تبدو مغايرة عن المبادرة السوفياتية السابقة، عندما حاول الموفد السوفياتي السفير سوداتوف اللعب على الوتر السياسي في سبيل جعل فريق لبناني يتعاطف مع الفلسطينيين ويوالي ياسر عرفات على العمياني، ثم ينقلب عليه تأييداً لسوريا ضد الفلسطينيين بعد عملية فردان، عندما أقدمت اسرائيل على اغتيال ثلاثة من أكبر القيادات الفلسطينية في لبنان. وجعلت بعض الحكم يطالب بإقالة قائد الجيش أسكندر غانم، على الرغم من عدم التوافق بين رئيس الجمهورية يومئذٍ سليمان فرنجيه ورئيس الوزراء صائب سلام.
إلا أن هذه التطورات تحمل على ارتقاب تأليف الحكومة قبل عيد الجيش في الأول من آب. لأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية لا تتحمل هذا الضياع في سلوك السلطة.
إلا أن مبادرة المجلس النيابي الجديد إلى التشريع في موضوع النفايات على الأقل، وبتأييد معظم الكتل النيابية باستثناء كتلة نواب الكتائب والنائبة بولا يعقوبيان الذين خرجوا من الجلسة احتجاجاً على سلق موضوع النفايات الصلبة.
ويقول النائب السابق والخبير الدستوري صلاح حنين ان مجلس النواب سيد نفسه، وان الدستور اللبناني يحترم مبدأ فصل السلطات، حتى ان حضور الوزراء ليس حتمياً أو إجبارياً، ويمكن أن يحضروا عندما يشاؤون.
وبرأي صلاح حنين ان البرلمان سلطة قائمة بذاتها، وإذا انطلقنا من هذه المعطيات فإنه يجوز القول إن لمجلس النواب الحق في أن يجتمع ويشرّع، لا أكثر، لأن لا حكومة بعد، وهذا سبب إضافي ليعمل المجلس.
ويقول حنين: دوماً ينطلق النواب من أن فلسفة الدستور هي العمل لا التعطيل، إنما ما نفع التشريع إذا غابت المراسيم التطبيقية عن الحياة.
كان الأستاذ الكبير نصري المعلوف، يقول قبل رحيله إن القانون هو رمز العدالة والإستقامة.
وعندما اختاره الرئيس كميل شمعون في العام ١٩٥٦ وزيراً، هتف بإسم النواب أن مقعداً وزارياً لا يُسقط رجل القانون، لأن الحق هو فوق الجميع.
وعندما ترشح مع الشيخ بيار الجميّل والنائب ميشال ساسين في الأشرفية، سقط في الإمتحان نواب مشهورون لأن الفوز لا يعطى لمن أساءوا إلى البرلمان.
وهذا ما جعل النائب ميشال ساسين يقف في مجلس النواب مطالباً بإعلان فوز الرئيس سليمان فرنجيه لأنه كان صوت الشعب وصوت البرلمان في آن.
ويرى النائب السابق باسم الشاب ان البرلمان، هو ميدان رحب لصولة القانون وانه المرجع لكل من يطلب الحق وينشد العدالة.
غاب النائب باسم الشاب عن البرلمان، لكنه للحقيقة والحق، قال لمن طلب رأيه قبيل الإنتخابات انه لن يتكلم إلا بعد الانتخابات، لأن المواطن له رأي محق، أياً كانت كلماته، حتى ولو جاءت على حساب من سبقه إلى الكلام.
كان، عندما يتكلم النائب باسم الشاب، يسكت الأخرون، ويقولون إن لحرمة الكلمة حقها والصواب.
ولذلك، فانه يرى ان المجلس النيابي هو المرجع السليم للحق، ولا بد من احترام هذا الرأي في كل مرة.
وما حصل في البرلمان، لا يبرر الأخطاء التي وقع فيها برلمانيون، عندما أصدروا القانون الأخير للإيجارات، وهو قانون ظالم برأي رئيس المجلس نبيه بري، لأنه يمهد لطرد أصحاب الإيجارات من منازلهم وقذفهم إلى الشارع.
وهذه خطيئة لا تغتفر لأن معظم النواب الذين سعوا الى إقراره في غفلة من الزمان أعداء أنفسهم أولاً.