Site icon IMLebanon

«تخصيب» الاختناق الإيراني

 

قبل أن يصل خطاب علي خامنئي، الذي أطلق رصاصة الرحمة على رأس الاتفاق النووي إلى العواصم الغربية، كانت الولايات المتحدة تعلن أنه لن يتم السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم، وتطوير سلاح نووي، محذّرة الحكومات والشركات من التعامل مع طهران، ومعلنةً عن مروحة جديدة من العقوبات لم تكن موجودة في السابق، في حين أعلنت فرنسا أن التخصيب خط أحمر.

إيران قررت العودة إلى ما قبل يوليو (تموز) من عام 2015، تاريخ الإعلان عن الاتفاق النووي مع مجموعة «5+1»، الذي وصفه يومها باراك أوباما، المتهافت على إبرام أي اتفاق يغطي على فشل سياسته الخارجية، بأنه «إنجاز العصر»، ليأتي دونالد ترمب ويعلن انسحاب أميركا من هذا «الاتفاق الكارثي»، كما وصفه.

خامنئي لم يضع رصاصة الرحمة فحسب في رأس الاتفاق، الذي كان قد فتح نوافذ رياح منعشة اقتصادياً على إيران، بعد عشرة أعوام من العزلة الدولية والعقوبات الخانقة، بل وضع رصاصة في رأس المساعي، التي كانت الدول الأوروبية تبذلها مع حكومة حسن روحاني، لإيجاد مخرج يحيي هذا الاتفاق، عبر الاستجابة إلى شروط واشنطن وهي:

وقف إيران تطوير الصواريخ الباليستية، والكفّ عن العربدة التخريبية والتدخل في شؤون الدولية الإقليمية، والتوقف عن دعم الإرهاب، والموافقة على رقابة دولية جادة للمنشآت النووية، خصوصاً في «نطنز».

وكان خامنئي قد حذّر الأوروبيين، يوم الاثنين، من الاعتقاد بأن بلاده يمكن أن تستمر في قبول وقف برنامجها النووي مع البقاء تحت رحمة العقوبات: «أقول لهذه الدول إن عليها أن تدرك بأنه حلم لن يتحقق… هذا لن يحصل أبداً»، وفي حين فسّر عدد من المحللين تصريحاته وتعليماته للبدء في تخصيب اليورانيوم وتعزيز القدرات الصاروخية، بأنها يمكن أن تشكل تمهيداً لحرب محتملة، رأى آخرون أنها عودة سريعة إلى مربع العزلة الدولية والاختناق الاقتصادي الذي عرفته في الماضي، وما كانت لتوافق يومها على الاتفاق إلا نتيجة لهذه العقوبات!

وإذا كانت إيران تعود الآن إلى مربع العقوبات الأول، وفي زمن أكثر تعقيداً وصعوبة بسبب تضاعف معاناتها الاقتصادية، نتيجة تدخلاتها وافتعالها الصراعات في سوريا والعراق واليمن، وما تتكلفه من عشرات الملايين لتمويل سياساتها وعربدتها الإقليمية، فإن الدول الأوروبية التي استماتت للتوصل إلى تسوية تنعش الاتفاق، ستعود سريعاً إلى الحظيرة الأميركية والالتزام بالعقوبات، خصوصاً بعدما أعلن خامنئي أنه أصدر تعليماته إلى منظمة الطاقة الذرية الإيرانية برفع أجهزة الطرد المركزي إلى 190 ألف وحدة.

ومن المعروف أن الدول الأوروبية انخرطت في مشاورات حماسية مع الحكومة الإيرانية بهدف إنقاذ الاتفاق، ليس لأنها ضد العقوبات الأميركية أصلاً، بل لأن الاتفاق عام 2015 فتح أمام الشركات الأوروبية، باباً لسوق تحتاج إلى كل شيء تقريباً بعد سنوات من العزلة، ولهذا تهافتت كبريات الشركات على الاستثمارات في إيران، ولكن الوقائع الاقتصادية والأرقام لا تسمح بالمغامرة أبداً بخسارة السوق والتبادلات مع أميركا وقيمتها تتجاوز 18 تريليون دولار في مقابل 700 مليون دولار، هي قيمة العقود التي أبرمتها هذه الشركات في إيران!

وفي هذا السياق تحديداً، وقبل أن يعلن خامنئي العودة إلى التخصيب النووي، كانت مجموعة «بيجو سيتروين» قد أعلنت تعليق أنشطة مشروعاتها المشتركة في إيران لكي تصبح ملتزمة بالقانون الأميركي في التاريخ الذي حدده الرئيس ترمب، أي السادس من أغسطس (آب) المقبل، وأنها بدعم من الحكومة الفرنسية تعمل مع السلطات الأميركية من أجل بحث تقديم إعفاء من العقوبات المحتملة.

«الدعم من الحكومة الفرنسية» يعني، ضمناً، أنه رغم كل الحماس والجهود التي بذلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع البريطانيين والألمان لإنقاذ الاتفاق، تبقى الوقائع الاقتصادية أهم، خصوصاً مثلاً عندما تعلن «بيجو سيتروين» أن مجمل أنشطتها في إيران يمثّل أقل من واحد في المائة من إيراداتها!

موجة الهروب من إيران بدأت عملياً قبل خطاب خامنئي الذي سيعيد الأوروبيين إلى الحظيرة الأميركية، ويدفع بإيران إلى مزيد من الاختناق الاقتصادي في مرحلة خانقة أصلاً، وصلت إلى درجة اعتراف الحكومة رسمياً، بأن نسبة الفقر تصل إلى خمسين في المائة، وأن البطالة في بعض المدن تجاوزت نسبة 60 في المائة، وكل ذلك يؤجج حركات التظاهر والاحتجاج المتزايدة وشبه اليومية، التي يواجهها النظام بالقمع ما يزيد من تأزيم الوضع الداخلي المأزوم أصلاً!

قبل أسبوعين، قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في جلسة سرية بالبرلمان إن الاتفاق النووي في غرفة الإنعاش وفي حال موت سريري، بسبب عدم وضوح الأوروبيين حول الضمانات بعدم الخروج منه، ولا نعرف فعلاً كم سيتمكنون من المقاومة أمام العقوبات الأميركية، لأن مساهمي الشركات الأوروبية هم أميركيون، والشركات ربما لا تتبع الحكومات.

وهكذا لم يكن مفاجئاً أن يعلن الموقع الإلكتروني لغرفة التجارة الإيرانية أن عدداً كبيراً من الشركات العملاقة قررت المغادرة فوراً بعد عشرة أيام من قرار ترمب، أي قبل موعد تنفيذ العقوبات بأسابيع، وهي: «توتال»، و«آني»، و«سيمينز»، و«إيرباص»، و«أليانتس»، و«دانييلي»، و«مايرسك»، والحبل على الجرار كما يقال!

بالعودة إلى خطاب خامنئي، كان لافتاً جداً أنه لم يتوانَ عن توجيه الاتهام إلى أطراف داخلية، باتخاذ مواقف مشابهة لتلك التي تنتهجها الدول الغربية، بشأن برنامج تطوير الصواريخ الباليستية، الذي وصفه بأنه مصدر قوة، وذلك في إشارة واضحة إلى حكومة حسن روحاني، التي كانت قد وعدت بتحسين الأوضاع الاقتصادية، وراهنت على إمكان التوصل إلى صيغة تفاهم مع الأوروبيين يمكن أن تنقذ الاتفاق، وهو ما يعني وجود انقسامات فعلية في السلطة السياسية ليس حول التفاهم مع الأوروبيين، بل استطراداً حول مطالبتهم بوقف التجارب الصاروخية والكفّ عن التدخلات الإقليمية.

وإذا كان أبو الحسن بني صدر أول رئيس للجمهورية الإيرانية بعد الثورة الذي عُزل من منصبه، قد اعتبر أن موقف خامنئي دليل قاطع على عجزه، لأنه يقوم على تعقيد الأزمة بدلاً من إيجاد حلٍّ لها، فإن المراقبين السياسيين يجمعون على أن قرار العودة إلى التخصيب يُعتبَر نهاية فعلية لمرحلة محاولات الاعتدال التي حاول حسن روحاني اتّباعها مع المجتمع الدولي، والعودة إلى مرحلة جديدة من التشدد تشبه حقبة أحمدي نجاد الذي يشتبك في خلاف حاد مع خامنئي هذه الأيام!

بعد الاتفاق عام 2015، أفرجت الولايات المتحدة عن عشرات مليارات الدولارات التي قال دونالد ترمب إن «نظام الملالي استعملها لتمويل عمليات تدخلاته التخريبية في دول المنطقة، ولدعم أذرعه العسكرية الإرهابية»، وها هو خامنئي يرد الآن على مطالب الأوروبيين بالكفّ عن العربدة الإقليمية بالقول: «سنواصل دعمنا للدول المقهورة»، لكن هذا الدعم سيضاعف عملياً من القهر الداخلي الذي يعاني منه الشعب الإيراني، في وقت بدأت فيه التطورات بالمنطقة تسرع الخطى من سوريا إلى اليمن إلى العراق لإنهاء التدخلات الإيرانية التخريبية!