عجيب أمر السياسة في لبنان ودول المنطقة، إذ «تُحلّل» ما تراه مناسباً لها فيما تحرّمه على الآخرين… ففي الوقت الذي يطلب فريق 14 آذار الموالي للسعودية والولايات المتحدة الأميركية وسواهما، من حزب الله سحب قوّاته من المعارك الجارية في سوريا، تفكّر المملكة جديّاً بالمشاركة العسكرية البريّة في هذه المعارك عن طريق دول «الناتو» و«التحالف الدولي لمكافحة داعش»، لا سيما بعد الخسارة التي تعرّض لها جنود المعارضة المعتدلة، على ما تقول، كونها تنفي تمويلها للمعارضة المتطرّفة ومن ضمنها «داعش» و«جبهة النصرة»، و«جيش الفتح» وسواها.

وإذ تتذرّع السعودية بأنّ مشاركتها بقوّة بريّة في سوريا سيكون بقدر التهديد الذي تتعرّض له من «تنظيم الدولة الإسلامية»، رفضت ما قاله حزب الله عن أنّ مشاركته في سوريا يهدف أولاً لحماية ظهر المقاومة في لبنان، وثانياً لمنع الإرهابيين من اقتحام المناطق الحدودية اللبنانية، على ما حصل في عرسال وجرودها وبعض القرى الشمالية.

فبقاء هذه التنظيمات أو أفولها، على ما تؤكّد أوساط ديبلوماسية عليمة، لا يرتبط بعدد هذه العناصر (نحو 30 ألف مقاتل أجنبي قدموا من أكثر من مئة دولة، بحسب تقرير الأمم المتحدة)، ومدى قوّتها وقدرتها العسكرية، بقدر ما يرتبط بتمويلها المتواصل منذ سنوات من قبل الدول الإقليمية والغربية التي خلقتها ونمّتها وزرعتها في المنطقة. فضلاً عن متاجرتها بالنفط الذي لا يزال المصدر الأساسي لتمويلها (إذ تبلغ عائدات «داعش» من مبيعات النفط والغاز المنهوب بين 400 و500 مليون دولار سنوياً). واللافت أنّ التنظيم يقوم بتصدير هذا النفط عبر خطوط وقنوات الى دول كبرى عدّة في العالم، رغم القرار الأممي الذي تبنّاه مجلس الأمن في 17 كانون الأول الماضي ويُلزم دول العالم بالعمل على تجفيف منابع تمويل الإرهاب وحظر أي نشاط تجاري مع «داعش»، وفرض جملة من العقوبات الاقتصادية والمالية على الجهات المتورّطة معه في تجارة النفط والغاز.

وإذ تحدّث مساعد الأمين العام للأمم المتحدة جيفري فيلتمان في أول تقرير له بشأن «التهديد الذي يُشكّله تنظيم «داعش» للسلم والأمن الدوليين»، عن «قدرات هذا التنظيم على حشد طاقات كبيرة وفي وقت قياسي»، رأت الأوساط نفسها أنّ هذا الأمر يعود الى كمية الموارد المالية التي تتدفّق على «داعش»، من عائدات النفط وغيره من الثروات الطبيعية في المناطق الخاضعة لسيطرته، ومن جمع «الضرائب» والمصادرات، ناهيك عن بيع الآثار المنهوبة، فضلاً عن الأموال التي ترد إليه على شكل تبرّعات من الخارج، و«إيرادات» الفدية، على ما ورد في التقرير، والتي يُغدقها بالتالي على المتطوّعين والمجنّدين لديه. علماً أنّه مهما بلغت هذه الأخيرة فهي لا تساوي حياة أي من الشبّان المنضوين للإرهاب، إذا ما طالتهم الضربات العسكرية الجويّة، أو القذائف الأرضية التي تُطلق باتجاههم من قبل الجيش السوري أو سواه.

فحزب الله الذي يُقاوم هذه التنظيمات في جرود عرسال، كما في مواقع متقدّمة، يُعاتب في الداخل اللبناني على تدخّله في سوريا، ويُتهم بأنّ سياسة «النأي بالنفس» التي تتبعها حكومة المصلحة الوطنية لا تنطبق عليه، فكيف سيتصرّف فريق 14 آذار بعد تدخّل السعودية بشكل مباشر، على ما تتساءل الأوساط ذاتها، وهل سيبقى هذا الفريق بمنأى عن الصراع السوري أم سيتدخّل فيه سياسياً ليدعم خطوة المملكة العسكرية، وكيف ستكون تبعات هذا الأمر على لبنان؟

أمّا أنّ السعودية مهدّدة من قبل التنظيم فهي ذريعة لا تنطلي على أحد، على ما تؤكّد الأوساط، فما طالها من الإرهابيين حتى الآن أصاب بعض المساجد الشيعية دون سواها. من هنا، فإنّ تدخّلها العسكري في البرّ لن يكون لمؤازرة المعارضة المعتدلة بقدر ما سيكون لحماية التنظيمات المتطرّفة وإعطائها الدعم اللازم على الأرض. كما أنّ أمراً مهماً قد يحصل عندها، هو المواجهة بين عناصر «حزب الله» و«الحرس الثوري الإيراني» من جهة، والقوّات السعودية من جهة ثانية، ما قد يؤدّي الى تأزّم كبير في العلاقة بين الجانبين. والأيام على ذلك شواهد، إذ أنّ قرار السعودية سوف يُتخذ بعد اجتماع بروكسل في الأسبوع المقبل، ومن ثمّ ستظهر نواياها الفعلية عندما تُصبح قوّاتها على أرض المعارك.

وترى الأوساط نفسها في هذا التدخّل السعودي في سوريا، رمي المملكة لورقة انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان خلفها ما دامت الأمور في الداخل على تعقيدها، بعد أن نجحت محاولتها في فتح هوّة بين المسيحيين ولا سيما بين مرشحَي 8 آذار، أي الجنرال ميشال عون والنائب سليمان فرنجية، وما دامت علاقتها مع «حزب الله» وإيران آيلة الى التصعيد والتوتّر بدلاً من التقارب والتلاقي لحلّ بعض أزمات دول المنطقة.

وتساءلت الاوساط: هل نحن نريد أن يعود التوتّر الى فريقي 8 و14 آذار، بعد أن بدأ الانفتاح على بعضهما البعض، ثمّ التلاقي والتفاهم على بنود سياسية لمصلحة الوطن، والعودة بالتالي الى ربط مصير بلدنا بمصير بلد جار، أم أنّه علينا المضي قُدماً في المصالحات لتشمل الشركاء في البلاد من مسيحيين ومسلمين؟ّ

من هنا، على ما ختمت الاوساط، على الدول التي تلعب بمصير لبنان وأوّلها الولايات المتحدة والسعودية وقطر، كما تركيا أن تكفّ عن مواصلة عملها «الشرير»، إمّا في تمويل هذه التنظيمات أو في شراء النفط منها للإتجار به، أو في تدخّلها في الداخل السوري بشكل مباشر أو غير مباشر، وإلاّ فإنّ لبنان ودول المنطقة لن ترتاح من تهديدات هذه التنظيمات وممارساتها العنيفة في كلّ من جرود عرسال، وبعض المحافظات السورية والعراقية وسواها، لا سيما أنّ ثمّة من بدأ الترويج لوصول «داعش» الى مصر، وسواها من دول العالم نظراً لارتباطه بعصابات إجرامية عالمية، كتهديد لها للوقوف في صفّ الدول المعارضة لبقاء نظام الرئيس السوري، كما لوجود إيران وروسيا المستقبلي في الشرق الأوسط.