IMLebanon

إستنفار شعبي وإعلامي يوقف جريمة بيئية

 

مجازر في حق الأشجار تُرتكب باسم الطمع لا الحاجة

 

 

جريمة بيئية ترقى إلى مصاف المجزرة بحق مئات الأشجار الخضراء والمعمرة في بلدة لبنانية تتغنى بأحراشها العتيقة وامتدادها الأخضر. ليست المجزرة البيئية الأولى ولن تكون الأخيرة لكن هذه المرة الفاعل معلوم ليس مجهولاً ولا محمياً، أما السبب فهو الفساد الذي انتشر كالسرطان من الرأس إلى الأعضاء وعشّش في كل الخلايا. فساد الدولة يوازيه فساد المواطنين ويتغذى واحدهما من الآخر. الأشجار وجدت هذه المرة من يدافع عنها بشراسة والجميع مستنفر لوضع حد للمجزرة ومعاقبة المسؤولين عنها.

جرائم بيئية متنقلة في أكثر من منطقة لبنانية يستنجد اهلها بالسلطات المسؤولة ونادراً ما يلقون تجاوباً، في رميش الجنوبية ورأس بعلبك البقاعية وفي بلدات عكارية عدة كما في حارة حمزة في قضاء بعبدا تختلف الأسماء والمشهد واحد: أشجار مقطوعة لا بهدف التدفئة بل للإتجار بالحطب. الواقع المعيشي صعب ومعذور المواطن إذا فكر بطرق للاستمرار والنجاة، لكن قتل الطبيعة واغتيال الاشجار بهدف الربح لا يمكن إيجاد أعذار له.

 

الناس البسطاء الذين ترتكب بحقهم جرائم يومية لا ينكرون على الطبيعة فضلها ولا يواجهونها بالجحود فلطالما تعايشوا معها واعتاشوا منها وقصة اللبنانيين مع الأحراش والغابات قصة قديمة فهي كانت مصدر الطاقة الوحيد لهم وامتداداً حيوياً لبيوتهم لذا كانوا يحترمون الغابة ويحافظون عليها من باب محافظتهم على أنفسهم وكان الحطاب صورة رمزية من صور الحياة اللبنانية في زمن الخير والطيبة. لكن اليوم الأمر اختلف وصار كل شيء مباحاً للتعديات والتجارة وكما يهربون البشر هكذا باتوا يهربون الشجر المقطوع تحت جنح الظلام والهدف واحد: إلاستفادة المادية ولو على حساب الوطن وأرضه.

 

جريمة بيئية تحت جنح الظلام

 

في بلدة حارة حمزة الصغيرة الواقعة في قضاء بعبدا وعلى تخوم بلدة راس المتن، لاحظ أحد أبنائها وخلال رحلة صيد له في مشاعاتها أن ثمة طرقات مستحدثة لم تكن موجودة في السابق وأن العشب على الأرض مسطح، وأن المنطقة البعيدة عن أي قدم فيها ما يثير الريبة. اشجار مقطوعة من كعبها بالعشرات أو حتى المئات، اشجار معمرة قديمة، بلوط وسنديان وصنوبر. استنفر الشاب وتقصى الأمر ليكتشف خطوط جريمة بيئية مستمرة منذ أكثر من شهر. هناك من يقطع الأشجار في المشاعات والأملاك الخاصة وأملاك دير مار الياس الكحلونية ليبيعها حطباً. الأهالي كانوا يسمعون اصوات المناشير لكنهم ظنوا أنها عملية تشحيل روتينية سنوية حتى تكشف أمر الجريمة. وقدرت كمية الحطب المقطوع ما بين 300 و 400 طن من الحطب يتم نقلها ليلاً عبر الطرقات المستحدثة. والرقم وحده كاف لتقدير كمية الربح التي جناها المرتكبون حيث ان طن الحطب يباع بحوالى 230 الى 250 دولاراً وهو مرشح للارتفاع مع اي ارتفاع لسعر الدولار. وقد تبين أن الجناة يبيعون الحطب بالمتر لا بالطن ويطلبون في المتر الواحد 65 دولاراً.

 

لا بلدية في حارة حمزة ومختارها متوف منذ السنة الماضية، البلدة سائبة على ما يبدو وامتدادها كبير من محطة بحمدون حتى وادي راس المتن وهذا ما اثار شهية المعتدين على تنفيذ جريمتهم بحق البلدة وبيئتها. الاستقصاءات بينت ان الجناة من أهل البيت، أحد الكهنة ومعه شاب من البلدة في السلك العسكري، يتوغلان حيث لا تصل قدم ويقطعان الشجر الأخضر من دون رخصة أو اي وجه شرعي. القصة اثارت ضجة وحدت بالرئاسة العامة للرهبنة المارونية التي يتبع لها دير مار الياس الى التحرك واتخاذ تدابير بحق المتهم كذلك استدعي الشاب العسكري للتحقيق. خرج الأمر من دائرة السكوت والتغاضي والتغطية وتحرك أمنياً وقضائياً وإعلامياً لوضع حد للجريمة المتمادية.

 

لكن إذا كانت ضيعة حارة حمزة قد وجدت من يدافع عن أشجارها فعشرات البلدات والمشاعات والأحراش تقف يتيمة أمام الحرائق المفتعلة وجرائم قطع الأشجار من دون أن تلقى من ينجدها. فالسعي وراء الحطب بات حاجة ملحة بعد أن استبدل الكثير من أهالي الجبال الصوبيات التي تعمل على المازوت بصوبيات الحطب الذي يبقى أوفر من استخدام المازوت أو الكهرباء للتدفئة. ويقول محمود عامر وهو يصنّع ويبيع الصوبيات في منطقة اللبوة العين في بعلبك إن مبيع صوبيات الحطب قد ازداد والصوبيا تستهلك بشكل متوسط من 3 الى 4 طن من الحطب في موسم الشتاء ما يجعل كلفتها بين 750 و 1000 دولار كحد أقصى إذا تم استخدام خشب السنديان أو اقل إذا تم استعمال أنواع حطب أخرى من الحطب يتراوح سعر الطن منها بين 220 و230 دولاراً. ويؤكد عامر أن كلفة صوبيا الحطب في الواقع لا تقل كثيراً عن كلفة صوبيا المازوت فالفارق قد يصل الى حدود 20% فقط وقد يصل استهلاك صوبيا المازوت في الموسم الى حوالى 1200 دولار. لكن الناس باتوا يفضلون الحطب لأنه يؤمن تدفئة أقوى رغم ان سعره يرتفع كثيراً مع بدء موسم الشتاء.

 

حماية الطبيعة على الورق

 

وائل مصطفى مسؤول برنامج الحفاظ على الطبيعة في جمعية الثروة الحرجية والتنمية AFDC يؤكد هذا الوقع لـ»نداء الوطن» قائلاً، إن نسبة قطع الأشجار على ازدياد بسبب ازدياد الطلب على الحطب للتدفئة، وأعداد الأشجار المقطوعة تنبئ بان القطع يتمّ بهدف التجارة أكثر منه للاستخدام الشخصي بغية التدفئة. ولا يقتصر القطع على مناطق محددة فحيثما تتواجد غابات يمكن قطع اشجارها تتم التعديات ولكن بعض أنواع الأشجار مرغوب أكثر من سواه مثل السنديان الذي يشتعل حطبه لمدة اطول وسعر الطن منه هو الأغلى وبعده الصنوبر والقطلب والملول واللوز البري والبلوط أحياناً واللزاب والشوح. كل ما يمكن أن يشتعل حتى الأشجار المثمرة بات محللاً للقطع، لكن يبقى بيع السنديان والصنوبر اسهل على تجار الحطب.

 

القانون في لبنان لحظ سلامة الأشجار، فقطعها يحتاج الى رخصة من وزارة الزراعة ولا يمكن أن يتم قطع كميات كبيرة إلا بإشراف وزارة الزراعة التي تقوم بذلك عبر مناقصة وتستوفي ضريبة عن الأشجار المقطوعة وتضع شروطاً محددة لذلك. والقطع الشرعي للاشجار لا يتم بشكل عشوائي يؤذي الطبيعة بل بطريقة مدروسة، فقطع الشجرة من كعبها ممنوع لانه يقتلها ويمنع نموها من جديد. كذلك يتيح القانون تشحيل الأشجار في موسم يمتد من 15 أيلول الى 15 نيسان وكل ما عدا ذلك مخالف للقانون.

 

القانون يذهب أبعد من ذلك ويفرض على كل من يود قطع اشجار من قطعة أرض يملكها بغية البناء عليها أن يتقدم بكتاب الى وزارة الزراعة التي تقيّم الأثر البيئي لذلك وتوافق من ثمّ على القطع أو ترفضه. لا بل يفرض القانون على الشخص المعني أن يشتري، مقابل ما تمّ قطعه، اشجارأً جديدة من المشاتل المعتمدة من قبل وزارة الزراعة يتم توزيعها على البلديات لتقوم بزرعها على أن تكون من صنف الأشجار نفسها التي تم قطعها. على الورق القانون ممتاز لكن العبرة تبقى في التنفيذ.

التشحيل المنطقي

 

يشرح وائل مصطفى الناشط البيئي تأثير القطع الجائر غير المدروس على المساحات الخضراء في لبنان فيقول ان شجرة الصنوبر إذا قطعت من كعبها لا تفرخ من جديد لذا فإن قطع الصنوبر ممنوع تماماً فيما تحتاج شجرة السنديان مثلا من 10 الى 15 سنة لتظهر مكانها شجيرة جديدة وكثير من أنواع الأشجار الأخرى في غابات لبنان يحتاج الى سنوات لينمو من جديد. لكن في المقابل وفي عالم البيئة والزراعة ثمة ما يعرف بالتفريد والتشحيل وهما أمران مفيدان للشجر حين يتمّان بطريقة مدروسة ووفق القانون. التفريد يكون بإبعاد الأشجار عن بعضها عن طريق نزعها وإعطاء الأفضلية لواحدة منها لتعيش وتكبر. اما التشحيل وإزالة بعض الأغصان عن الشجرة فيعطيها الدفع لتكبر ويحافظ على الغابات ويحميها من الحرائق. ولطالما اعتمد أجدادنا هذه الطريقة للحفاظ على الأشجار يقول مصطفى حيث كانوا يقسمون الحرش أو الغابة الى مناطق فيشحلون إحداها ويتركون الأخرى ولا يعودون إلى المنطقة ذاتها إلا بعد خمس سنوات حين تكون الأشجار قد استعادت كل أغصانها.

 

اليوم التشحيل يحتاج الى رخصة وموافقة من وزارة الزراعة وينبغي ألا يزيد قطر الغصن المشحّل عن 7 سنتم حتى يكون انتاج الحطب منه للاستعمال الشخصي للتدفئة وليس للتجارة. حتى في المشاعات التابعة ملكيتها للدولة ثمة طرق شرعية لقطع الأشجار بغية بيع الحطب تخضع للقانون نفسه الذي يخضع له قطع الأشجار في الأراضي المخصصة للبناء من دفع ضرائب وشراء بدائل للتشجير. ويمنع قطع الأشجار من كعبها إلا إذا كان الكعب يتضمن عدة فروع.

 

الحل لإنتاج الحطب موجود لكن قلة من الجشعين يلجأون إليه وهو يقوم على تحويل الأغصان المشحّلة الى قطع من الخشب المضغوط عن طريق المكابس تباع للفلاحين وأصحاب الأرض بأسعار زهيدة وتستعمل للتدفئة حيث أنها لا تقل فاعلية عن قطع الحطب. وقد انتشرت المعامل المخصصة لإنتاج الحطب المضغوط في عدة مناطق لبنانية لتخفف عن المزارعين عملية تخزين الحطب ونقله وتؤمن بديلاً مقبول الكلفة عن المازوت والغاز للتدفئة.

 

إذا، القانون اللبناني قادر على حماية غاباتنا لكن يبقى الحل بأن تقوم وزارتا الزراعة والبيئة بعملهما وأن يقوم مأمورو الأحراش ومسؤولو المراكز التابعة لوزارة الزراعة بالمراقبة والتبليغ عن أي اعتداء وأن تأخذ الأجهزة الأمنية أي نشاط يهدد المساحات الخضراء على محمل الجد لتوقيف المسؤولين ووضع حد للتعديات المتواصلة. ويبقى كل مواطن خفير…