بات متيقناً لدى أعداء حزب الله وحلفائه وأصدقائه، أن التزام الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، الردّ المباشر والقاسي و»خارج مزارع شبعا»، بداية مرحلة جديدة في معادلات الصراع مع العدو، وترجمة لقرار بهدف تحقيق نتيجة من اثنتين: ردع العدو عن أصل الاعتداء، أو تدفيعه أثماناً مؤلمة، كبديل من المعادلة التي يحاول فرضها على المقاومة بشنّ اعتداءات متقطعة، من دون أثمان مؤلمة
محاولة اكتشاف أهداف وسياق المعادلة التي أعلنها السيد حسن نصر الله أخيراً، تستوجب فهم ما يخطط له العدو من اعتداءات وما يستند إليه من تقديرات. كذلك إن محاولة اكتشاف المعادلات أو الوقائع التي يحاول العدو فرضها تستوجب استخلاص ما يستند إليه من تقديرات إزاء حزب الله والبيئة التي تؤثر بخياراته.
الواضح أن هناك رؤية متجذرة في الوعي الإسرائيلي يُعبَّر عنها في الخطاب السياسي والإعلامي، وتحضر أيضاً في التقديرات الاستخبارية وفي مقاربات المعلقين المختصين، تقوم على مفهوم مفاده أن ليس من مصلحة حزب الله، فيما يخوض معركة وجود ضد الجماعات التكفيرية والإرهابية في سوريا ولبنان، فتح جبهة أخرى مع إسرائيل. سواء كان ذلك، بمبادرة منه، أو كرد الفعل على ضربات يشنها الجيش الإسرائيلي، وقابلة للاستيعاب (بنظر العدو)، سواء تلك التي تستهدف قدرات المقاومة الاستراتيجية أو كوادره في لبنان وسوريا.
هذا التقدير شكّل ويشكّل أرضية لبلورة خيارات عملانية إسرائيلية تستهدف قدرات الحزب الاستراتيجية. وتتبدّى الترجمة العملية لهذا الخيار بالاعتداءات التي تشنها إسرائيل في الساحة السورية.
وفي السياق نفسه، كان من الطبيعي أن تدرس إسرائيل توسيع دائرة اعتداءاتها لتشمل الساحة اللبنانية، وهو ما حاولت ترجمته مطلع 2014، عندما استهدفت نقطة محدَّدة في منطقة جنتا على الحدود اللبنانية ــــ السورية. وردّ حزب الله في حينه بتفجير عبوة ناسفة استهدفت دورية إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا. ويبدو أن إسرائيل فهمت في وقتها الرسالة وأدركت أن الحزب عازم على الرد على أي محاولة لتوسيع دائرة الاعتداءات في اتجاه لبنان، فلم تتكرّر الاعتداءات على الأراضي اللبنانية حتى حينه.
كذلك وسعت إسرائيل دائرة اعتداءاتها لتشمل كوادر لحزب الله في سوريا، أحياناً، الأمر الذي استوجب ردوداً في مزارع شبعا.
لكن المشكلة في تل أبيب أن هذه الاستراتيجية لم تحقق ما كان يؤمَل منها، وهو ما عبّرت عنه اعترافات كبار القادة الإسرائيليين، بمن فيهم بنيامين نتنياهو الذي تحدث عن امتلاك حزب الله المزيد من القدرات التي تشكل تهديداً للعمق الاستراتيجي لإسرائيل، وأن ازدياد خطره على الكيان الإسرائيلي من خلال تراكم قدراته وخبرات كوادره ومقاتليه.
ويبدو أن الرسائل التي وجهها الأمين العام للحزب قبل أسابيع عندما تحدث عن استهداف منشآت نووية في العمق الإسرائيلي، تندرج ضمن إطار ردع العدو عن شن اعتداءات إسرائيلية محددة في الساحة اللبنانية قد تتدحرج نحو مواجهة واسعة.
ومع التأكيد أن ردود حزب الله السابقة حققت ما كان يؤمَل منها لجهة تحييد الساحة اللبنانية، حتى حينه، يبدو أن هناك مستجدات في الحسابات الإسرائيلية باتت تستوجب ارتقاءً مضاداً في أدوات الرد والردع. وتقوم هذه الحسابات على أن أي إنجاز مفترض لجيش العدو باستهداف قدرات حزب الله في لبنان، أو أي من كوادره الموجودين على لوائح الاستهداف، بات يستأهل التكيف مع مستوى الأثمان التي يمكن أن تترتب على ذلك، ما دام سقفها «مزارع شبعا».
كسر نصر الله المعادلة التي حاول العدو فرضها بشنّ اعتداءات من دون أثمان مؤلمة
ينطوي هذا النوع من الحسابات على أرجحية ما لإقدام إسرائيل على شنّ اعتداءات جديدة في الساحة اللبنانية (وارتقاء في الاعتداءات في الساحة السورية)، ما دامت الأثمان المقدرة ستبقى ضمن سقف ما شهدناه حتى الآن. وأي نجاح للعدو في فرض معادلة كهذه يعني أن لبنان سيتحول إلى ساحة اعتداءات مدروسة ومفتوحة تستهدف ما تراه إسرائيل أولويات ملحّة. ودائماً استناداً إلى تقدير مفاده أن مصلحة حزب الله وجمهوره تكمن في تجنب فتح جبهة جديدة مع إسرائيل.
نتيجة ذلك، بات يمكن القول إننا إزاء مرحلتين: مرحلة سابقة حققت فيها ردود حزب الله في مزارع شبعا أهدافها عبر تجنيب لبنان اعتداءات عسكرية إسرائيلية مباشرة. ومرحلة جديدة تتطلب مستوى جديداً من الردع.
في هذه المحطة – المنعطف، أتى إعلان السيد نصر الله، بالرد ــ على أي عملية قتل لأي من كوادر أو مجاهدي حزب الله ــ بشكل مباشر وقاسٍ وخارج مزارع شبعا. إضافة إلى ما سبقه من مواقف ورسائل حازمة في الأسابيع الماضية.
ماذا بعد تعديل «قواعد الاشتباك»؟
المؤكد أن التزام السيد نصر الله العلني بالرد المباشر والقاسي وخارج مزارع شبعا ألغى إمكانية الرد المسقوف من دائرة الاحتمالات التي يفترض أنها حاضرة على طاولة القرار السياسي والأمني في تل أبيب. ونتيجة ذلك، باتت قيادة العدو تدرك أن أي تجاوز للخطوط التي رسمها حزب الله، يعني أنها ستتلقى ردوداً مؤلمة تستوجب منها، منذ الآن، تحديد ما هي خياراتها العملانية على قاعدة خطوتين إلى ثلاث خطوات إلى الأمام.
في ضوء ذلك، باتت إسرائيل أمام مروحة خيارات، بعيداً عن ترجيح أي منها:
1 ــــ الامتناع عن أصل الاعتداء الذي يستوجب الرد الذي التزمه حزب الله.
2 ــــ المبادرة إلى الاعتداء وتلقي الرد الذي توعد به الحزب ثم الانكفاء.
3 ــــ المبادرة إلى الاعتداء والرد على الرد.
في السيناريو الأول، يكون العدو قد امتنع عن أي مغامرة عسكرية، ويكون حزب الله قد حقق هدفه الردعي.
في السيناريو الثاني، يكون العدو قد ارتدع في نهاية المطاف، لكن بعد اختبار جدية حزب الله عملياً. ويكون الحزب قد حقق هدفه الردعي مع تضحيات ما وثمن مؤلم للعدو.
أما في السيناريو الثالث، فيكون العدو أمام خيار التدحرج نحو مواجهة أوسع. لكنه أقدم على الاعتداء الابتدائي، مع علمه بأن ذلك سيؤدي إلى مواجهة واسعة. وعلى ذلك، نكون أمام قرار استراتيجي اتخذه العدو بالعدوان، بدلاً من أن يكون متقطعاً وبدون أثمان مؤلمة، كما كان يخطط لتوسيع دائرة الاعتداءات. ويكون حزب الله قد استطاع أن يقلب المعادلة ويحولها إلى عدوان مكلف جداً للعدو، وفق وتيرة مرتبطة بمنسوب الاعتداءات واتساعها، وبما يؤدي إلى تعزيز قدرة ردع الحزب الذي يحمي لبنان والمقاومة.
في ضوء كل هذه السيناريوهات، يكون حزب الله قد استطاع أن يحطم القوالب والمفاهيم التي بدا أنها متغلغلة في وعي قادة العدو السياسيين والعسكريين، وأعاد خلط الأوراق على طاولة صانع القرار في تل أبيب، وأربك حسابات الكلفة والجدوى لديه. والنتيجة الطبيعية لذلك، كسر المعادلة التي كان يحاول العدو فرضها على لبنان وحزب الله، عبر شنّ اعتداءات متقطعة دون أثمان مؤلمة.
معركة بأشكال متعددة
يمكن القول إن العمليات التي تتألف منها «المعركة بين الحروب» تأخذ أشكالاً متنوعة انطلاقاً من أهدافها التكتيكية المختلفة. فهي تتوزع، مثالاً لا حصراً، بين: عمليات الجمع الاستخباري وراء الحدود، عمليات «الإحباط المركز»، وهو المصطلح المعتمد إسرائيلياً لتصفية قادة وكوادر لدى العدو بأساليب عسكرية مباشرة (سمير القنطار نموذجاً)، عمليات الاغتيال ذات الطابع الأمني في عمق أراضي العدو (عماد مغنية وحسان اللقيس)، إجهاض مسار مراكمة القدرات العسكرية لدى الأعداء سواء من خلال اعتراض عمليات تهريب الأسلحة (سفينة فكتوريا 15/3/2011) أو استهدافها وتدميرها في الطريق أو داخل أماكن تخزينها (الغارات التي نُفذت داخل الأراضي السورية في الأعوام الثلاثة الماضية، والتي أقر بها نتنياهو مؤخراً)؛ تدمير برامج تطوير قدرات غير تقليدية لدى الأعداء قبل نضوجها، أو عرقلتها بالوسائل العسكرية والأمنية (مفاعل دير الزور، واغتيال العلماء النوويين الإيرانيين).