IMLebanon

محو الأمية الدستورية

بدون إستثناء أزمة الأمية الدستورية أي عدم معرفة إدارة الشأن العام على أساس الكتاب أو العقد الإجتماعي أو الدستور، وبمعنى أوضح ما توافق عليه الجميع من مبادئ وقواعد وقوانين حاكمة للفرد والمجتمع،  وهي مغايرة للأنماط التي تحكّمت بإدارة الشأن العام على مدى عقودٍ طويلة، وهي الأعراف و الإستثناءات و الظروف القاهرة، والتي لم تعد صالحة لإدارة الشأن العام.

ترتبط عملية الشروع في تأسيس ثقافة دستورية بإتفاق الطائف لانه جاء بعد نزاع مسلح دام خمسة عشر عاماً وهو بمثابة عملية انتقالية من حال الحرب والفوضى الى حال السلم والاستقرار، والطائف او وثيقة الوفاق الوطني تضمنت ثلاثة أبواب وهي المبادئ العامة أو ما عرف بمقدمة الدستور اي البنود العشرة الحاكمة للدستور والتي تحدّد الهوية والحدود ونظام الحكم والثوابت الوطنية ، ثم البنود الإصلاحية وهي إعادة صياغة ما هو قائم بمنحى اصلاحي يتلاءم مع إستقرار الدولة والمؤسسات. والأمر الثالث هو البنود التحديثية وهي مواد لم تكن موجودة في الدستور اللبناني أصلاً. ولقد تم إقرار وثيقة الوفاق الوطني في مطار القليعات في 5 تشرين الثاني 1989 ، وبذلك أصبح إتفاق الطائف جزءاً لا يتجزأ من الدستور اللبناني.

الآن يطالب الأقوياء في الدولة اللبنانية الضعيفة تغليب قوة التشريع على تشريع القوة، أي الإعتراف بضرورة قوة الدولة على حساب قوة مكونات السلطة وإمتيازاتها وقوتها القاهرة للدستور والدولة والمؤسسات، وذلك بالدعوة إلى تطبيق إتفاق الطائف وبكامل بنوده بعد إهماله سبعة وعشرين عاماً. ولا أعتقد أن هذه الدعوة مناورة من المناورات القديمة الجديدة للطبقة السياسية القابضة على الدولة والمؤسسات والمانعة للحياة الدستورية التي كان يفترض فيها ان تجعلنا جميعاً مواطنين  في دولة القانون والمؤسسات. لا شك أن هذه الدعوة تتطلب شجاعة كبرى لانها تؤشر على إنهيار القوى المستفيدة من تعطيل الحياة الدستورية من وصاية وتدخلات وإحتلال، بالإضافة إلى الأدوات الطائفية والأمنية التي ساعدت هذه القوى على التحكم بإدارة الشأن العام بالأعراف والإستثناءات.

يشعر الكثيرون في لبنان بوجود مساحات من الفراغ تجعلهم يبادرون إلى التجمع والتلاقي وإطلاق المبادرات، معتقدين أن هناك حالة فراغ في السلطة وأنهم قادرون على ملء هذا الفراغ في تكوين مجموعات جديدة على قاعدة إعادة تكوين السُلطة، والحقيقة هي أنه يوجد فراغ حقيقي ولكن في الحياة الوطنية السياسية وليس في السلطة. والمضحك المبكي هو أن مكوّنات السلطة الحالية تحاول ملء الفراغ السياسي بإعادة تفعيل الحياة الدستورية المعلّقة منذ عقود، منذ إنتخابات 1972 إلى 1992و برلمان العشرين عاماً وصولاً الى برلمانات الوصاية والإحتلال ومعها التمديد للبرلمان الحالي أربع سنوات. وأعتقد أن مكوّنات السلطة الحالية هي الأقدر على الشروع في إطلاق ورشة دستورية وذلك لتمكّنها الفعلي من أدوات السلطة الطائفية ، في حين أن الآخرين غير قادرين على ولوج هذه العملية لأنهم يتطلعون إلى اعادة تكوين السلطة بدل التأسيس لحياة سياسية وطنية من خلال إطلاق ورشة حوار ونقاش من أجل تكوين ثقافة دستورية والتي تتطلب  تعميم الوعي حول العملية التعاقديّة في بناء الدولة والمجتمع على أساس الحقوق والواجبات بدل ثقافة الغرائز الطائفية والقبلية والمناطقية المتحكمة في الوعي العام، لأن تمكن جماعة النخبة من الثقافة الدستورية لا يعني وجودها لدى عموم الناس والثقافة لاتتحقق الا عندما تصبح وعياً عاماً ونمط حياة لدى عموم الناس ،وهنا تأتي أهمية عملية محو الأمية الدستورية في لبنان.