خلافاً لما يَظهر في العلن، يتَّجه الإيرانيون إلى تصعيد شامل في الشرق الأوسط، وعمليةُ أربيل هي البداية. فحرب أوكرانيا منحتهم فرصةً للمطالبة بتحسين شروط التفاوض مع الأميركيين، لا حول النووي فحسب، بل أيضاً حول نفوذهم الإقليمي. وعلى الأرجح، سيظهر التصعيد الإيراني في الأيام والأسابيع المقبلة، من العراق واليمن إلى سوريا ولبنان.
لا تبدو حرب أوكرانيا على وشك حسمٍ عسكري أو تسويةٍ سياسية في موعدٍ سريع. ومن الواضح أنّها ستطول وتتحوَّل حرب استنزاف. ومعها، سيتغيَّر العالم. فالقوى الدولية والإقليمية كلُّها تُجري مراجعاتٍ لحساباتها وسياساتها، بل تحالفاتِها، انطلاقاً من المعطى الأوكراني والدروس التي يُفرزها. والإيرانيون في الطليعة.
في ظاهر الصورة، الروس هم الذين قاموا بتفخيخ الاتفاق النووي في فيينا، في اللحظات الأخيرة قبل ولادته، مطالبين بضمانات مكتوبةٍ بألّا تشملهم العقوبات الأميركية المفروضة على إيران. وثمة محللون ذهبوا بعيداً في الحديث عن تنافر في المصالح بين موسكو وطهران في ما يتعلق بالاتفاق النووي.
يعتبر هؤلاء أنّ الإيرانيين مستاؤون من موسكو لأنّها عطّلت تسويةً في فيينا كانت ستؤدي إلى الإفراج عن مليارات مجمّدة يحتاجون إليها. بل إنّ بعض المحلّلين يذهب إلى القول إنّ الإيرانيين ينتقمون اليوم من روسيا التي لم تدعمهم بنحو واضح، لا ضدّ الأميركيين ولا ضدّ الإسرائيليين ولا ضدّ الخليجيين العرب، بل حافظت دائماً على تموضع وسطي.
يقولون أيضاً إنّ روسيا قطفت دفعةً واحدةً ثمرة كل التضحيات الثمينة التي قدَّمها الإيرانيون على مدى سنوات في سوريا، بالمال والسلاح والرجال. وهي تمنح الضوء الأخضر للمقاتلات الإسرائيلية، ساعة تشاء، لتوجيه ضرباتها إلى الأهداف الإيرانية في سوريا، من دون أي اعتراض.
لكن العالمين بالعلاقات الروسية – الإيرانية يجزمون أنّ أي كلام على تنافر في الرؤية أو المصالح بين روسيا وإيران ليس واقعياً، وأنّ الجانبين ينسِّقان الخطى تماماً تحت سقف التحالف الاستراتيجي. وتعتمد إيران على موسكو، كما على بكين، حتى اليوم، كبوابتين أساسيتين للتفلُُّت من العقوبات الأميركية أو للالتفاف عليها.
وفي تقدير المطلعين على واقع العلاقات بين موسكو وطهران، أنّ الطرفين يمارسان اليوم مناورة متبادلة يريدان أن يقطفا ثمارها، وهي تسمح لهما بتحسين الشروط في مواجهة الأميركيين:
1- يقوم الروس بتعطيل اتفاق فيينا في اللحظة التي يستعجل الأميركيون التوقيع. ويستكمل الإيرانيون هذه اللعبة بالضغط على واشنطن كي تتراجع عن بعض شروطها وتسرِّع إبرام الاتفاق.
2- يقوم الإيرانيون بممارسة لعبة القوة، فيصعِّدون عسكرياً وسياسياً على مجمل رقعة الشرق الأوسط. وهذا ما يؤدي إلى إشغال واشنطن عن المسرح الأوكراني جزئياً، ويغرقها في مسائل إقليمية أخرى.
3- تبعث الضربة الصاروخية لأربيل برسائل ساخنة إلى حلفاء واشنطن في الخليج العربي، مفادها أنّ طهران مستعدة لتوجيه هذه الصواريخ إلى مناطق عربية أخرى، إذا ما جرى استخدام الموارد الغازيّة العربية لمصلحة الغربيين وللضغط على روسيا. ومن الواضح أنّ العرب أدركوا باكراً مخاطر هذه المغامرة، ولم ينزلقوا إليها. وهذا ما يفسِّر «حيادهم النسبي» بين روسيا والولايات المتحدة في الملف الأوكراني.
وعلى الأرجح، ستكون الخطوة الإيرانية التالية مطالبة الجانب الأميركي بإعادة النظر في النصّ الذي كان جاهزاً للتوقيع، في ما يتعلق بالملف النووي، والتذكير بأنّ طهران ملتزمة بهذا الجانب فقط من الاتفاق، لكنها لن تقدِّم أي تنازل في ما يتعلق بالنفوذ الإقليمي.
ويدرك الإيرانيون أنّ إدارة الرئيس جو بايدن ليست مستعدة لتقديم تنازلات في أي اتفاق يتمّ توقيعه، خصوصاً أنّ هناك اتجاهاً ضاغطاً في أوساط الحزب الجمهوري يطالب الرئيس بعرض الاتفاق على الكونغرس لينال الموافقة قبل أن يصبح ساري المفعول، في اعتباره تشريعاً. وهذه نقطة يجهد الديموقراطيون لعدم الوصول إليها، لأنّها ستثير خلافاتٍ داخلية حول صلاحيات الرئيس، ليس مناسباً الغرق فيها في خضم الحرب مع روسيا.
إذاً، في الأسابيع المقبلة، وفي موازاة الحرب في أوكرانيا، ستعمد طهران إلى عرض العضلات بقوة في الشرق الأوسط، سياسياً وعسكرياً. والنقاط الأربع المرشحة للتصعيد هي اليمن، حيث الرسالة موجَّهة إلى حلفاء واشنطن الخليجيين، والعراق وسوريا ولبنان، حيث يمكن توجيه الرسالة إلى إسرائيل.
والضربة التي وجّهتها طهران إلى أربيل، برَّرتها بضرب أهداف إسرائيلية خفيَّة، لا بضرب القنصلية الأميركية التي ما زالت قيد الإنشاء هناك. وسبق لإسرائيل أن ضربت أهدافاً إيرانية في سوريا أخيراً، وسقط فيها ضابطان من الحرس الثوري. وقد أعلنت طهران عن هذه الخسارة رسمياً، ما يعني أنّها أرادت التمهيد للردّ بشكل «رسمي» وواضح أيضاً.
ولكن، يحرص الإيرانيون على تجنُّب حصول احتكاك بينهم وبين إسرائيل على الساحة السورية، لئلا يُحرِجوا الحليف الروسي. وبالمثل، هناك حرص إسرائيلي على تجنّب ضرب «حزب الله» أو أي أهداف إيرانية في لبنان، منعاً لإحراج الحليف الأميركي. وهذا التوازن السياسي والعسكري يدفع الإسرائيليين والإيرانيين إلى تجنّب التصعيد على الجبهة اللبنانية حتى إشعار آخر، على رغم كل التوترات ومبررات التصعيد.
لكن ذلك لا يمنع إيران من ترجمة تصعيدها في لبنان بممارسة القبضة الحديدية. وفرصتُها سانحة، سواء بالانتخابات الآتية أو بالحكومة التي تنتج عنها والاستحقاق الرئاسي. وهي قبضةٌ ستسمح لها بالإمساك بزمام البلد لسنوات إضافية.