حكومة كردستان العراق تعرض، بالاضطرار لا بالخيار، التفاوض مع الحكومة الاتحادية من مربع ما قبل الاستفتاء على استقلال الاقليم: تجميد نتائج الاستفتاء، والحوار وفقا للدستور. لكن الخارطة لم تعد كما كانت قبل الاستفتاء، بحيث استعادت القوات العراقية السيطرة على الأراضي المتنازع عليها والتي دفعت البشمركة دما للسيطرة عليها خلال المواجهات مع داعش. كذلك الأمر بالنسبة الى المواقف الاقليمية والدولية. فما كان في نظر أربيل نافذة فرصة لحيازة ورقة الاستفتاء والحوار مع بغداد على شروط الانفصال بدا في الواقع جدارا. وما كان في رأي المتعاطفين اقليميا ودوليا مع الكرد ممارسة لحق تقرير المصير صار في الحسابات غلطة.
والكل تقريبا يحمّل رئيس الاقليم مسعود البارزاني المسؤولية عن مغامرة غير محسوبة، مع ان الرسائل كانت مكتوبة على الجدار أمامه، وأصوات التحذير جاءته مرتفعة من واشنطن وأنقرة وموسكو التي راهن على مصالحها معه وتفهمها للخطوة. فأميركا التي حمت الاقليم من أيام صدام حسين الى اليوم كانت تريد أولا تأجيل الاستفتاء للتركيز على محاربة داعش. وكانت ولا تزال تريد بقاء الاقليم الكردي في عراق اتحادي وتتخوف من استقلاله، لأن الكرد في نظرها عامل أساسي في ضمان التوازن وسط لعبة السلطة بين الشيعة والسنّة. وهواجس أردوغان الكردية داخل تركيا وفي سوريا أقوى بكثير من مصالحه التجارية والسياسية مع أربيل. وحسابات طهران في الدفاع عن نفوذها ضد خطط أميركا في أيام ترامب ساهمت في دفع حكومة الرئيس حيدر العبادي الى تجاوز حدود المواقف السياسية نحو التحرك العسكري.
لكن بغداد الرابحة كما أربيل الخاسرة في أزمة. الكرد منقسمون، بصرف النظر عن تصويت ٩٢% في الاستفتاء لمصلحة الاستقلال. والعراقيون، من شيعة وسنّة، الذين اتخذوا موقفا واحدا ضد الاستفتاء والانفصال ليسوا موحّدين. الحكم في اقليم كردستان طغى عليه الطابع العائلي وحسابات العشائر والفصائل والمحاصصة في الفساد. والعملية السياسية في بغداد ناقصة ومختلّة التوازن، حيث السنّة يشكون من التهميش، والشيعة يمسكون بالمفاصل الأساسية للسلطة التي تتركز في أيدي رئيس وزراء يكاد يكون منصبه مقتصرا على شخصيات من حزب الدعوة المتأثر جدا بالنفوذ الايراني الواسع جدا في العراق.
وهذا ليس مناخا صحيا وسليما لحوار ناجح بين بغداد وأربيل. فالانقسام الكردي يزيد من حاجة كل الأطراف الى الاستقواء بقوى خارجية. واختلال التوازن في بغداد وتسلّط الحشد الشعبي على مناطق السنّة والكرد وصفة لتوليد أكثر من داعش.
ومن الصعب استمرار التعايش بعد الآن بين الحاجة الى دور الجنرال قاسم سليماني والحاجة الى دور الجنرالات الأميركيين.