في 14 آذار عام 2005 كانت طرابلس سبّاقة ومتقدمة في انتفاضة الإستقلال. هتفت “لبنان أولاً”، نافيةً تهمة أنها بقيت “طرابلس الشام”. والمشهد تكرّر في 17 تشرين 2019، فتلك المدينة التي تضم أكبر نسبة من الفقراء صرخت بأعلى صوتها وحازت لقب “عروس الثورة”، منتقمةً لتاريخ طويل من الحرمان.
لم تصل “ثورة الأرز” إلى تحقيق أحلام الطرابلسيين واللبنانيين، ولم تنجح إنتفاضة 17 تشرين في تحقيق المطالب، لكن الطرابلسي يعي جيداً حقيقة الوضع، وهو انتفض رافعاً شعار “كلن يعني كلن” ومن ضمنهم النائب فيصل كرامي الذي استسلم لمعاناة أهل مدينته ووجد الوقت لزيارة تركيا في عز الحرب المشتعلة بين أذربيجان وناغورنو كارباخ، مؤكداً أنها نموذج يحتذى وأن “العلاقة معها بمثابة صفحة مشرقة بتاريخ منطقتنا وأمتنا، ولم تغلق أصلا”. وبغض النظر عن دور تركيا في لبنان والمنطقة، فإن تصريحات كرامي لا يمكن ان تفسر الا باهتمامات طائفية ومذهبية منفصلة عن مصلحة لبنان، في وقت يسعى الطرابلسي الى تأمين لقمة عيشه لا الانحياز في صراع معقد في القوقاز له حساسيته في الداخل.
تتمثل طرابلس بثمانية نواب، لكن النائب الوحيد الذي يفتخر بلقب ورثه من زمن الاستعمار العثماني هو “الأفندي” فيصل كرامي. وتؤكّد الدراسات والابحاث أن “الأفندي” لقب عثماني ينطبق على أربع فئات: أبناء السلطان وأفراد العائلة المالكة من الذكور. الفئة الثانية من غير المسلمين في السلطنة أصحاب المراكز العالية. الفئة الثالثة مخصصة لمناصب دينية رفيعة. أما الرابعة فلموظفين عاديين عند الولاة المعينين من اسطنبول.
يبني فيصل كرامي خطابه السياسي على الإثارة واستذكار مراحل مأسوية من الحرب في زمن الانتخابات، ويتابع حراكه مستغلاً غياب السعودية من أجل القول إن ابن طرابلس يريد إحياء أمجاد السلطنة، في وقت ينظر أبناء مدينته ومعهم كل الشعب اللبناني إلى التحرّر وبناء بلد تسقط فيه كل الألقاب التي كرسها الإستعمار.
يقول سياسي طرابلسي مخضرم إن أمام فيصل طريقاً طويلاً ليصل الى نضج “الرشيد”، فهو حليف “حزب الله” على الساحة السنية ومن ورائه المحور السوري- الإيراني، ومن جهة ثانية يحاول مد الجسور مع الأتراك لجمع التناقضات، أما تصريحاته من تركيا فضربة قوية وهجوم مبطن على طائفة أساسية في لبنان، ما يطرح السؤال عما إذا كان “الأفندي” لا يريد على الأقل إحترام حليفه حزب “الطاشناق”؟
ويبدو أن فيصل كرامي يقرأ في كتاب تاريخ خاص. فهو لا يعلم أن حصار جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى أدى إلى المجاعة الكبرى التي ذهب ضحيتها نحو 300 ألف مسيحي، فيما هلك أهل البترون نتيجة حصار جمال باشا السفاح وبطشه، فكيف يمكنه صياغة خطاب وطني جامع يقنع مؤيديه قبل الأخصام؟
يعلم الجميع أن آل كرامي كانوا من العائلات السياسية المؤسسة للبنان ولهم تأثير عبر حضورهم الفعلي في طرابلس، ولفيصل تحالفاته التي تمتد من النظام السوري الذي حكم البلاد إلى “حزب الله” و”التيار الوطني الحرّ” والرئيس نبيه بري، فلماذا لم يستخدم تحالفه لانهاض طرابلس والشمال بدل التوجه الى تركيا لطلب المساعدات؟
يحمـل كلام كرامي تناقضاً واضحاً. وهو إذ حاول كسب ود الأتراك خلال زيارته منتقداً مبادرة الرئيس ماكرون واحتفال مئوية لبنان الكبير الذي ذكَّره بالإنتداب، فإنه استنكر استبعاد طرابلس من الاحتفال، فهل كان ليقول ذلك لو كان مدعواً الى قصر الصنوبر؟
يحاول كرامي حجز مقعد له في خضم التنافس التركي- الخليجي، والتركي- الفرنسي. وزيارته تركيا تقع في هذا الاطار، والأكيد انه غير مهتم باستياء الأرمن ولبنانيين كثيرين يرفضون منحى أردوغان العدواني تجاه ارمينيا، مثلما يرفضون الوقوف عند أي “باب عالِِ” في أي مكان.