القمة الأوروبية المدعوة في 17 الجاري لإقرار اتفاق مع تركيا للحد من سيل اللاجئين، تبدو أكثر أهمية من المفاوضات بين المعارضة السورية والنظام التي بدأ التحضير لها أمس وتنطلق في 14 الجاري. ويعود تراتُب الأهمية إلى أن الأزمة السورية تحوّلت قضية لاجئين نتيجة تعقيدات داخلية وإقليمية ودولية، مثلما حوّلت إسرائيل القضية الفلسطينية منذ العام 1948 وحقّقت مبتغاها، على رغم الدولة الفلسطينية الحالية التي لا يصدّقها حتى أهلها. البطولة في لعبة اللاجئين السوريين لتركيا أردوغان، ولا يلتفت إلا القليلون إلى لبنان والأردن ومعاناتهما اقتصادياً واجتماعياً من لاجئين يشكّلون نسبة مرتفعة قياساً على مواطني البلدين.
ولم يجفّ حبر أخبار زيارة أحمد داود أوغلو طهران والاتفاق على التنسيق لمواجهة الفيديرالية في سورية والصعود القومي الكردي، حتى ربط رئيس الحكومة التركية، في اجتماعه مع القيادات الأوروبية، قضية اللاجئين السوريين بإيجاد منطقة آمنة في شمال سورية، ووجد لهذا الربط تفهُّماً أوروبياً واضحاً. أليست المنطقة الآمنة شبيهة بالنفوذ الكردي في شمال سورية، بل أخطر منه في ما يتعلق بوحدة سورية شعباً وأرضاً؟
نشهد ما يشبه «البازار» التركي الأوروبي للاجئين السوريين، وإغفالاً للحل الحقيقي للمشكلة: إنجاز اتفاق سياسي وعودة السوريين إلى وطنهم. الوصول إلى هذا الحل ليس أولوية في لقاءات أوغلو الإيرانية والأوروبية، إنما تحضر المصالح والبحث عن حصص النفوذ في سورية التي لن تشبه نفسها.
وإذا كان حسّ العدالة يقضي بالتعاطف مع المعارضة السورية، تحديداً في مطلبها تعديل النظام السياسي على نحو ديموقراطي، فإن التعاطف يذهب اليوم إلى تلمّس مشاعر الخيبة لدى معارضين دُمّرت بلادهم وخُطفت شعاراتهم، وصار النظام المشكوّ منه واحداً من العناصر اللاعبة فوق جثة سورية أو ما بقي منها حياً.
وأبرز خيبات المعارضة ما يتعلق بتركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، فلو أن حليفه السابق بشار الأسد رضي بـ «إخوانيّ» رئيساً للحكومة كما طلب الرئيس التركي لما كانت ثورة في سورية ولا ثوّار. وعلى نحو مشابه في مصر، فلو رضي محمد مرسي ومرشده باقتراح أردوغان إقامة نظام علماني ديموقراطي في مصر يشكل «الإخوان» واحداً من أحزابه ويتمثلون في برلمانه، لما سقط حكم «الإخوان» ولما وصلوا إلى هذا الدَّرْك من الحقد على وطنهم مصر وإلحاق الأذى به من الداخل والخارج.
ويحضر كثيرون من المعارضين السوريين و «الإخوان» المصريين، في أنقرة وإسطنبول، بمؤسساتهم السياسية والإعلامية، لكن هذا الحضور لا يفيدهم في معرفة أسباب نجاح أردوغان وحزبه، إنما يردّدون ما يرضيهم ويطمئنهم، بأن الرئيس التركي عدو لنظام الأسد وأخوهم في الإسلام السياسي، وبذلك يجعلون الفشل والنجاح أخوين متشابهين، وكذلك الوهم والعقل، ومثلهما الغياب في دهاليز التاريخ والحضور في واقع العصر.
ضيوف تركيا هؤلاء يرسمون لأردوغان صورة تختلف عن حقيقته الماثلة أمام عيونهم، فالرجل، مع حزبه، كرّس عقد الزواج المدني الذي يتخذ من المحاكم المدنية مرجعاً في الخلافات، ونَزَعَ خانة تعريف دين المواطن عن بطاقة الهوية، وبطبيعة الحال عن جواز السفر، وانتدب مختصين بالفقه الإسلامي عكفوا عشر سنوات على دراسة الأحاديث النبوية، وخلصوا إلى إصدار ما اعتمدوه منها في كتاب «كلية الحديث» أي كلّ الحديث، أقرّته وزارة الشؤون الدينية أو «الوقف الديني» كما يقول الأتراك، وعمّم الكتاب على المعنيين كما على الجامعات. والحال أن هؤلاء المختصّين حذفوا أحاديث كثيرة لضعف روايتها أو لمخالفتها القرآن أو لتعارضها مع خُلُق النبي الأكرم.
هل يجرؤ «الإخوان» وجماعات الإسلام السياسي العرب على اتباع نهج أردوغان؟
يقيمون في تركيا ولا يلمسون أن شعبها يعتبر نفسه مسلماً ذا وجه أوروبي. لذلك نلحظ اهتماماً بحقوق الإنسان، وصولاً حتى إلى المثليين الذين لا تطاردهم الدولة إنما تحمي تظاهراتهم في ساحة «تقسيم».
قد يبدو وجه أردوغان أليفاً للمعارضين السوريين و «الإخوان» حين يقمع الصحافة ويتسرّع في تخوين معارضيه، لكن هذا التصرف جانب سلبي من شخصيته، يجعله محبباً لدى الإسلاميين العرب ومكروهاً من أوروبا وأميركا. ولا يمنع ذلك من الاعتراف بأن أردوغان، ومعه تركيا بمشاكلها القديمة والمستجدّة، قريب من الغرب أكثر مما يتصور مؤيدوه العرب، وربما تفضّله واشنطن، مثلاً، على بنيامين نتانياهو الذي تسقط أسهمه شيئاً فشيئاً مع سقوط أسهم اليمين الإسرائيلي المتطرف.