كل شيء يوحي منذ الانقلاب الفاشل في تركيا، بأن الرئيس رجب طيب أردوغان بدأ فعليا بطي صفحة المغامرة الدموية في سوريا، واقتنع بأن أوهام استعادة مجد الأمبراطورية العثمانية السلجوقية قد انهارت على أبواب حلب. فهل هُزم فعلا المشروع التركي في سوريا؟ ربما لا نزال بحاجة الى قراءة دقيقة لما جرى ويجري قبل الوصول الى استنتاج كهذا، إما لتعزيزه أو لنقضه.
الأهداف الأولى لأردوغان
لم تكن قد مضت شهور ثلاثة على بدء الأحداث في سوريا صيف 2011، حتى سارع أردوغان الى القول: «لا يمكن بناء الحكم على الدم، لأن من يبنون حكمهم على الدم سيذهبون بالدم، ونحن الآن نتحرك بصبر وحذر ولكن بعد الاستشارات سنقول كلمتنا الأخيرة». كان بذلك يوجه ما يعتقده الإنذار الأخير لجاره السوري الذي ضحى بالكثير خصوصا في المجال الاقتصادي، وكاد يضرب بعض المصانع السورية بغية إقامة تحالف استراتيجي مع تركيا.
ثم بعد أقل من عام، وحين تبين أن الدولة السورية تترنح على وقع ضربات المسلحين وأن التظاهرات تتزايد والأمن ينفلت، وصل الأمر بأردوغان الى حد القول في 5 أيلول/سبتمبر 2012 إنه ذاهب مع رفاقه «لتلاوة الفاتحة فوق قبر صلاح الدين الأيوبي، ثم الصلاة في باحات جامع بني أمية الكبير، وزيارة تربة الصحابي بلال الحبشي والإمام ابن عربي والكلية السليمانية ومحطة الحجاز… وان أحزاب المعارضة التركية التي ناصرت النظام السوري ستخجل في القريب العاجل من زيارة دمشق».
كانت كل التحليلات تصب آنذاك في خانة القول إن اردوغان يجد في ما سُمي بـ «الربيع العربي» فرصة ذهبية لركوب حصان «الإخوان المسلمين» من مصر الى سوريا فتونس واليمن وليبيا وغيرها. كل شيء كان يمهد لذلك. فالرئيس الاميركي باراك أوباما كان قد فرش السجاد الأحمر للجماعة الإسلامية من خلال خطابه الشهير في جامعة القاهرة عام 2009، حيث لم يذكر مرة واحدة كلمة «العالم العربي» بل خاطب المسلمين وقدم النصح في كيفية إدارة شؤون الحكم.
لم يكن العالم بحاجة الى تحليلات كثيرة ليعرف ماذا يريد زعيم حزب العدالة والتنمية وسيد تركيا. هو قدم الجواب بما لا يحتاج لأي توضيح. قال: «يسألوننا عن أسباب انشغالنا بسوريا. الجواب بسيط للغاية، لأننا بلد تأسس على بقية الدولة العليَّة العثمانية. نحن أحفاد السلاجقة. نحن أحفاد العثمانيين. نحن على امتداد التاريخ أحفاد أجدادنا الذين ناضلوا من أجل الحق والسلام والسعادة والأخوة… وان حزب العدالة والتنمية هو حزب يحمل في جذوره العميقة روح السلاجقة والعثمانيين».
كل التصريحات الرسمية التركية آنذاك كانت تصب في خانة إحياء مشروع عثماني قديم في المنطقة يعم مجمل الدول العربية المجاورة وتقوده تركيا. لمثل هذا المشروع نظَّر أيضا مهندس السياسة الخارجية أحمد داود أوغلو (الذي لكثرة ما هندس ونظَّر، انهارت السياسة الخارجية على رأسه بعدما وصلت الى حد الخصام مع الجميع والفشل مع الجميع، فتم إقصاؤه ليدفع الثمن). قال أوغلو آنذاك: إن «شرق أوسط جديداً يولد في المنطقة وفكر هذا الشرق الجديد سترسمه تركيا التي ستقوده إلى التغيير وفقاً لما يريده الأتراك لتركيا نفسها وستكون الناطقة باسمه، وإن حزب العدالة والتنمية كما نجح في تغيير وجه تركيا خلال 10 سنوات، فإنه سينجح أيضاً في تغيير الشرق الأوسط، لأن تركيا باتت قوة تغيير في المنطقة ومركزاً لصناعة القرار والمستقبل».
كيف لا ينتشي أردوغان وأوغلو وهما يشاهدان الآتي: الإخواني محمد مرسي رئيسا لمصر. الشيخ راشد الغنوشي (الذي يعتبر «حركة النهضة» ربما أهم من الإخوان لكنها تشاركهم الأفكار) يتصدر زعامة تونس ما بعد إطاحة زين العابدين بن علي. الحركة الإسلامية تتصدر المشهد في ليبيا. إخوان اليمن وفي مقدمهم الشيخ حميد الأحمر وحزب الإصلاح يتقدمون سريعا. وفي المملكة المغربية القيادي الإسلامي عبد الاله بن كيران يتولى شؤون الحكومة. وها هي سوريا تغرق بالدماء، والإخوان المسلمون يتصدرون المعارضة أولا في المجلس الوطني ثم في الائتلاف. والحليفة قطر تمد الجميع بالمال والعلاقات الدولية والغطاء السياسي والإعلامي والسلاح بالتعاون مع الدول الغربية، حتى تلك التي تضع الإخوان على لوائح الإرهاب.
الأهداف الحالية لأردوغان
في آخر لقاء بين الرئيس السوري وأوغلو في 9 آب 2011، كان صاحب كتاب «العمق الاستراتيجي» يحاول أن يتحدث مع الأسد بلغة الإملاءات. يطلب منه مثلا أن يجري مقابلة وأن يتحدث عن الإصلاحات وأن يسحب الجيش وغيره، قبل أن يذكِّره مضيفه بشيء من التأنيب بأنه يتحدث الى رئيس دولة سيدة. ثم يقترح اوغلو بطريقته الذكية إشراك الإخوان المسلمين في السلطة من دون أن يذكر اسمهم. يقول: «اليوم لدينا حقبة سياسية جديدة. أولئك الذين يريدون المشاركة، بدلاً من التظاهر بوسعهم الانضمام إلى أحزاب سياسية، ثم نذهب إلى الانتخابات. فكر في ذلك، لكني أعتقد أنه سيكون جيداً أن تعطي موعداً قرب نهاية تشرين الثاني أو كانون الثاني، لإجراء انتخابات برلمانية، وسيتم تقاسم السلطات مع رئيس الوزراء المنتخب».
ثم يسأل الوزير التركي، الرئيس الأسد: «هل تقترح أن نتحدث إلى البعض في المعارضة؟» وهو يعني بطبيعة الحال الإخوان المسلمين. يرد الأسد: «لا، لا مشكلة، حتى مع المعارضة الخارجية، فاروق الشرع علاقته طيبة بالمعارضة». يكرر أوغلو: «إذاً كنت بحاجة إلى مساعدتنا بالنسبة إلى المصالحة الوطنية». يرد الأسد بلهجة أكثر حزماً: «لا». يبدو أن هذه الـ «لا» لم تكن كافية أو لم يسمعها الزائر التركي جيدا، فتابع: «إذا أردت سيادة الرئيس، وكما فعلنا من قبل، يمكن أن تكون هناك رسالة قصيرة قبل المقابلة مفادها أنك ستتقاسم السلطة مع رئيس الوزراء المنتخب». يسارع الأسد الى رفع الصوت قليلا وطرح سؤال مشكك: «ماذا تقصد بتقاسم السلطة. لم يتم بعد تحديد شكل النظام الذي سنخرج به: رئاسي، برلماني». انتهت اللقاءات عند ذلك الحد. (محضر الجلسة كاملا موجود في كتاب «الأسد بين الرحيل والتدمير الممنهج» الصادر عن دار الفارابي).
لا شك بأن الطموح الاردوغاني فشل أولا في إقناع الأسد منذ الشهر الثاني للأحداث بإشراك الإخوان المسلمين في السلطة، لأن القيادة السورية كانت تعتقد أن في الأمر فخا لإحلال الإخوان مكان النظام الحالي.. ثم فشل ثانيا في إطاحة الأسد بالسياسة (عبر المعارضة وداعميها) وبالقتال (من خلال فتح الحدود لكل من هب ودب من مسلحين وسلاح معتدل وإرهابي وتكفيري وإجرامي).
الآن تغيرت الصورة. بات منع الكرد من إقامة دولة في الشمال السوري هو الغاية التركية القصوى. لذلك حصل التقارب مع روسيا وايران، خصوصا بعد الخذلان التركي من الغرب الأطلسي والذي بلغ ذروته في الامتناع عن إقامة منطقة عازلة في سوريا ثم بسبب عدم تسليم الداعية فتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب في تركيا والمقيم على الأراضي الاميركية الى انقرة.
هل يقتنع أردوغان؟
يبدو من خلال كلام رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم أن تركيا اتخذت «خطوات جدية لتطبيع العلاقات مع سوريا». هي ستفعل الأمر نفسه مع مصر بعدما طبّعت العلاقات مع روسيا وإسرائيل. هذا أمر جيد لسوريا ولكنه جيد ايضا لنزع أثقال كثيرة وضعها اردوغان واوغلو على كاهل تركيا وجيشها ومؤسساتها.
في السياسة ما من شيء مستحيل. المصالح تغلب على المبادئ. وما من شيء مستبعد، بما في ذلك أن يرتفع مستوى اللقاءات بين الجانبين التركي والسوري. لكن حتى ذلك الوقت يجب التوقف عند الأمور الآتية: تركيا تستبيح الأراضي السورية وتتوغل بذريعة ضرب «الإرهابيين الكرد» و«حفاظاً على الوحدة السورية»، هي لم تعلن صراحة لا إقفال الحدود ولا وقف دعم المسلحين. لن يكون في مصلحتها التنافر مع السعودية ودول عربية أخرى بسبب تغير الموقف في سوريا، وها هو الرئيس الأميركي باراك أوباما يقول للرئيس التركي بعد لقائهما على هامش قمة العشرين في الصين: «سنضمن أن تتم مقاضاة الأشخاص الذين قاموا بهذه الأعمال».
معروف أن الخلاف الاميركي التركي يتمحور حول نقطتين: أولاهما عدم تسليم غولن، وثانيتهما عدم إقامة منطقة عازلة في سوريا. وفق تسريبات بعض بنود الاتفاق الأميركي الروسي (الذي لم يُقر بعد) فإن واشنطن تشترط لأي اتفاق أن يُمنع الطيران السوري من قصف مناطق تحت سيطرة المعارضة المعتدلة… لو تم ذلك، واتفق الجانبان الاميركي والتركي على صيغة قضائية لمحاسبة المشتركين في الانقلاب ومستقبل غولن… فهل يبقى اردوغان قريبا من روسيا وايران ومستعدا للقبول بالتحول الكبير؟
الأكيد انه لو اقتنع بالتحول، ووصل الامر الى حد المصافحة مع الأسد (اذا قبل الأسد ذلك طبعا) يكون في الامر انتهاء للحلم العثماني السلجوقي الذي قام على صهوة الإخوان المسلمين والدماء السورية، ولكنه يكون ذلك أيضا اعترافا سوريا بأنه لا يمكن إنهاء الحرب من دون تسوية مع الأتراك.
لا شك بأن كل ما ينهي الحرب ونزيف الدماء في سوريا مهم حيث وصلت المأساة ألى أسوأ صورها الإنسانية. لكن لا بد من الانتظار قبل القول إن اردوغان استدار 180 درجة، فعلاقاته مع روسيا وايران كانت قائمة وستستمر حتى في أوج الحرب السورية.. هو يحتاج التحول لمنع الكرد من إقامة الدولة، لكنه يريد أن يكون ذلك من موقع قوة لا موقع ضعف، ولا ننسى أنه من أكثر الدول تنسيقا مع كرد العراق.. فما يوحي بقبوله اليوم قد يتغير غدا.