لا يعرف الأميركيون، استناداً إلى المتابع الأميركي المزمن لأميركا “الشرق الأوسطية” نفسه، كيف يمكن إيجاد حل للأزمة – الحرب الأهلية والمذهبية في سوريا من خلال المفاوضات، وإذا كانت المملكة العربية السعودية وتركيا تريدان حلاً ينهي أحلام الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الهيمنة، وإذا كانت هذه الأخيرة تريد أن تتأكد أن تركيا لن تنجح في أن تصبح القوة المهيمنة في المنطقة. والمهم في هذا المجال، يضيف هؤلاء، هو أن الأميركيين لا يعرفون كيف يستطيع أحد إقناع المتشددين جداً أي حتّى التكفير والعنف والإرهاب بقبول تسوية لأزمتي سوريا والعراق لا تتلاءم مع أهدافهم المعلنة أو لا تحقّقها، وخصوصاً إذا استمر الأتراك في غضّ النظر عن تدفّق هؤلاء إلى الدولتين المذكورتين، الأمر الذي يمكّنهم من تعويض خسائرهم البشرية جراء القصف الجوي الذي يقوم به الطيران الحربي الأميركي وطيران دول أخرى في “التحالف الدولي ضد الإرهاب”. ويبدو في نظر أميركيين كثيرين أن أنقرة تستعمل البالغي التشدّد من المقاتلين في سوريا والعراق لمحاربة الإيرانيين ووكلائهم، كما لمحاربة أكراد حزب العمال الكردستاني التركي الذي يتزعّمه السجين عبدالله أوجلان، وأكراد سوريا. ولا يعني ذلك في رأي المتابع المذكور نفسه أن تركيا لن تقوم بدور في مرحلة ما لاحتواء التنظيمات الإسلامية البالغة التطرّف والمقاتلة. لكن هدفها من ذلك سيكون إبقاءهم تحت سيطرتها ومنعهم من أن “يفتحوا على حسابهم” كما يُقال.
هل سيستطيع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الإستمرار لاعباً أساسياً في سوريا واستطراداً في العراق رغم مشكلاته الداخلية السياسيّة بعد خسارته الغالبية السياسيّة المطلقة في الانتخابات العامة الأخيرة، ورغم مشكلاته الأمنية بعد قراره العودة إلى استعمال القوة ضد أكراد بلاده وأكراد الدول المجاورة؟ وهو القرار الذي أعاد مناطق تركية عدة مسرحاً لأعمال إرهابية، والذي أغرى المنظمات الماركسية المتطرفة العنفية بالعودة إلى النشاط الأمني أو العسكري، بعدما ظُنّ أنها انتهت أو أوقفت نشاطاتها جرّاء انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره قبل عقدين ونصف عقد من الزمن، والذي بدأ يترك ظلّه السلبي على الاقتصاد والليرة التركيتين؟
لا ينكر المتابع الأميركي المزمن هذه المشكلات، ولا ينفي الانتقادات التي يتعرّض لها أردوغان في واشنطن. لكنه لا يعتقد أنها تشكل خطراً على تركيا واستقرارها ودورها. فهي حليفة أميركا وعضو حلف شمال الأطلسي. أما مستقبل أردوغان فربما يتعرّض لنكسة أكبر من التي واجهها حتى الآن، وخصوصاً إذا كانت نتائج الانتخابات النيابية المبكرة التي يعتزم الدعوة إليها بعد أشهر قليلة غير متوافقة مع طموحاته الكبيرة جداً بل الشعبوية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تؤثر نتائج كهذه على أردوغان فقط فتُقصيه عن الحياة السياسية العامة، أم تدفعه إلى المواجهة ولو أَدخل ذلك بلاده أتون الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والأمني، ويفتح الباب لعودة الانقلابات العسكرية إليها من جديد؟ والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا ايضاً هو: هل سيتأثر “حزب العدالة والتنمية” الاسلامي أو المحافظ الذي يتزعّمه فينقسم أو يفرط أو يزول مثلما زالت أحزاب اخرى قبل مرحلة عودة الإسلامية المعتدلة إلى تركيا، أو يعيد تنظيم نفسه بقيادات حكيمة وواعية مثل الرئيس السابق عبدالله غول الذي كان شريك أردوغان وآخرين في تأسيسه؟
طبعاً لا يمكن إعطاء أجوبة ناتجة من تكهُّنات، لكن ما يمكن الإشارة اليه في هذا المجال هو معلومات عدد من الأميركيين العارفين والمتابعين عن كثب عن احتمالات تطور الأوضاع في تركيا. وهي تفيد أن أردوغان سينجح في النهاية في تجاوز كل العقبات التي تعترضه وسيثبِّت حكمه وإن فرض عليه ذلك الاستعانة بالعسكر، سواء مباشرة أو على نحو غير مباشر. وتفيد أيضاً أن واشنطن وأنقرة قررتا “الإمساك” بمنطقة حدودية سورية محاذية لتركيا وقريبة من مرفأ اللاذقية لمنع الإرهابيين من استعمالها للعبور إلى الداخل السوري. ويعني ذلك أن مرفأ هذه المدينة قد يصبح الهدف التالي وليس “داعش” وأمثاله من المتطرّفين، وربما يكون استعمال “الثوار المعتدلين” في هذه المنطقة لتطمين أبنائها إلى سلامتهم. ويعني ذلك، في صورة أو في أخرى، أن “منطقة آمنة” حرّة (Free Zone) قد “تُخلَق”، وقد يدخلها في وقت غير بعيد 300 عنصر عسكري. وتفيد ثالثاً أن حرب أردوغان على الأكراد السوريين ستستمر وسيكون الهدف من ذلك “تنظيف” الجانب السوري من الحدود مع تركيا من هؤلاء ومنعهم من إقامة كيان مترابط.