قال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية المستشار أحمد أبو زيد الذي تبرّع بتوزيع صورة المصافحة بين وزيرَي الخارجية المصري سامح شكري والتركي مولود جاويش أوغلو على هامش أعمال مؤتمر قمة دول عدم الإنحياز الأخير في فنزويلا، إنّ اللقاء بين الوزيرَين، عكس رغبة تركيا فى تجاوز الخلافات مع مصر.
لكن أبو زيد لم يقل ما إذا كان ذلك اللقاء ذلك مقدمة لتليين المواقف وتخلّي البلدين عن الشروط والشروط المضادة قبل أيّ مصالحة بينهما؟ أو أنّ ما يجرى سيشكل مقدمة لمصافحة مماثلة بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي على هامش اعمال الجمعية العمومية للامم المتحدة، وهي التي لم تحصل في قمة الدول العشرين في بكين على رغم أنّ المسافة بينهما لم تتجاوز المترين خلال التقاط الصورة التذكارية للمشاركين فيها؟
هل المصافحة الأخيرة «على الواقف» بين الوزيرَين التركي والمصري يمكن أن تمهّد لعودة العلاقات المصرية ـ التركية الى ما كانت عليه قبل سنوات؟ وهل بمقدورها أن تكون مقدمة لترجمة تعكس حقيقة ما يقال حول أنّ قنوات الاتصال بين البلدين قد نجحت في التوصل الى ما تريده هذه المرة، بما يعني فتح الطريق أمام صفحة جديدة من العلاقات؟
وهل تستعدّ أنقرة فعلاً لطرق باب مصر، بعد التحوّل الكبير الذي أدخلته على سياستها الخارجية تماماً كما فعلت مع روسيا وإسرائيل؟
في مطلع شباط المنصرم وجّه شكري رسالة شديدة اللهجة الى نظيره التركي جاويش أوغلو، مفادها رفض تدخّل أنقرة في الشؤون الداخلية للقاهرة.
وفي الثالث من تموز المنصرم، وبعد قرارات التغيير في سياسات تركيا الخارجية أعطى وزير الخارجية التركي الضوء الأخضر في أنّ تركيا مستعدة لتحسين علاقتها مع مصر، وقال «إنّ رئيس الجمهورية ونحن منذ سنة نقول علينا أن تكون لنا لقاءات مع مصر».
وقبل أسبوعين تحدث رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم عن أنّ بلاده في صدد البدء في محاولة جادة لتطبيع علاقاتها مع مصر. إنها تصريحات واضحة في الشكل لكنها غير مفصّلة المضمون، فهل تكون ترجمتها الاولى ما جرى بين شكري وجاويش اوغلو وما قد يفاجئنا في نيويورك بين اردوغان والسيسي؟
مصر وعلى رغم وصفها التحوّل الحاصل في سياسة تركيا الإقليمية بالانحناءة والاستدارة ونزول تركيا عن الشجرة التي تسلّقتها في الأعوام الأربعة الأخيرة، تردّد دائماً أنّ ما يعنيها هنا هو تنفيذ مطالبها وشروطها قبل حصول أيّ تبدّل في مسار العلاقات مع أنقرة.
لكنّ القيادات التركية اعلنتها وكرّرتها مراراً أنّ الملف المصري هو آخر الملفات التي ستناقشها انقرة في ضرورات تغيير سياستها الخارجية بسبب ضعف ترابط المصالح والعلاقات، ناهيك عن التحاق الجانبين بشبكة علاقات إقليمية ودولية متباعدة تقوم على التحالف مع المنافسين والخصوم والأعداء.
لذلك ينبغي عدم المبالغة في رفع سقف التوقعات والتفاؤل بتحوّلٍ جذري في مسار العلاقات التركية ـ المصرية التي شهدت حالات من الصعود والهبوط والهبات الباردة والساخنة بحسب المزاج السياسي للحكام في البلدين وطريقة رسمهم حسابات مصالحهم الإقليمية فوق رقعة شطرنج المنطقة.
قبل 4 أعوام أثارت الثورة المصرية الحماسة في صفوف قيادات حزب «العدالة والتنمية» ودفعتها الى التحرك السريع نحو مصر الرئيس محمد مرسي لفتح صفحة جديدة من علاقات التعاون التي وصلت الى أدنى مستوياتها في عهد الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك.
ومرحلة ما بعد انقلاب 3 تموز 2013 قادت نحو تراجع العلاقات أكثر فأكثر بعدما قلبت المعادلات ودفعت الأمور الى التدهور من جديد، ثمّ بروز الاستهداف السياسي المباشر عبر تمسّك تركيا بورقة «الاخوان» وقياداتهم والرد المصري من خلال الانفتاح على أكراد سوريا وتركيا وتبنّي مطالب أرمن المنطقة واهدافهم في مواجهاتهم مع أنقرة.
القيادة السياسية المصرية تريد تصفية حساباتها مع أنقرة التي فتحت الأبواب على وسعها امام «الاخوان المسلمين» سياسياً وإعلامياً واقتصادياً، وجعلت من المدن التركية مركز تجمّع وانطلاق إقليمي، واردوغان متمسّك برفض «النظام الانقلابي» وضرورة العودة الى المسار الديموقراطي وحقوق الإنسان وإنهاء الاعتقالات والمحاكمات غير العادلة لقيادات «الاخوان».
سياسة المناكفة والمكايدة بين القاهرة وأنقرة قادت الى السير في اتجاه بناء التحالفات المتباعدة وإلحاق الضرر بمصالح بعضهما البعض إقليمياً ودولياً.
وكانت الاتفاقية التجارية البحرية «الرورو» التي أُبرمت بين البلدين في آذار 2012 أولى الضحايا في مسار علاقات تجارية واقتصادية ضعيفة أساساً حيث لم تتجاوز ارقام التبادل التجاري 4 مليارات دولار وهي لا تعني كثيراً بالمقارنة مع العلاقات التركية ـ الروسية او التركية ـ الإيرانية.
كلّ طرف يريد المصالحة بالمقاييس التي تناسبه لكنّ هناك حقائق اخرى شبه معروفة لدى القيادات السياسية في البلدين وهي أنّ المتغيّرات الإقليمية الكثيرة تفرض على القيادتين التركية والمصرية مراجعة الثوابت والمتحوّلات في علاقتهما الثنائية واعتماد استراتيجيات جديدة تقودهما نحو التنسيق، والتحرك للبحث عن مجالات التعاون وفرصه المتعددة بين الجانبين.
والتحوّل المطلوب في سياسات مصر وتركيا يفترض استغلالهما موقعَيْهما المميَّزين كجسر تواصل جغرافي وتاريخي وتجاري بين دول المنطقة. فبمقدار ما هي مصر صلة الوصل بين جناحَي العالمين العربي والإسلامي الآسيوي والأفريقي بمقدار ما هي تركيا صلة وصل بين العالمَين الشرق اوسطي والاوروبي.
في أنقرة هناك دائماً من يردّد «أنّ أيّ تدخّل في ارادة الشعب هو انقلاب بالنسبة الينا، وأنّ قوة السلاح لا يمكن أن ترسم مسار الديموقراطية وهذا ما عشناه ليلة 15 تموز المنصرم». لكنّ هناك في القاهرة مَن يقول ايضاً إنّ على انقرة أن تحترم إرادة الملايين من الشعب المصري.
البعض في مصر يتمسّك ببناء جدران الابتعاد من تركيا «العدالة والتنمية» مستخدِماً فزّاعة العثمانية الجديدة والأرشيف الموجع من حقبة العهد العثماني، ويضع شروطاً تناسبه هو بينها الندية، ثمّ الاعتذار لمصر30 حزيران، وأن تسلّم أنقرة «الإرهابيين والمحرّضين عليه من قيادات الاخوان» والموجودين في أراضيها.
بينما البعض في تركيا ما زال يتحدّث عن «محاكمات عادلة والتراجع عن قرارات الإعدام بحق قيادات «الاخوان». وهناك مَن يقول إنّ مادة وحيدة قد تكون مشجعة على علاقات براغماتية وهي خطط استخراج الغاز وتصديره من شرق المتوسط، وإنّ التطبيع التركي ـ الاسرائيلي والمصالحة التركية ـ الروسية هما اللذان سيضغطان في هذا الاتجاهِ.
الرغبة الحقيقية في المصالحة السياسية ليست على ما يبدو على لائحة الأولويات وبين أهداف القريب العاجل. كلّ طرف يريد المصالحة بالمقاييس التي يفهمها ويتبنّاها. ربما السيناريو الأقرب هو مصالحة بطيئة وعلى مراحل بنحوٍ تدريجي وترك الزمن يساعد على النسيان.