IMLebanon

أردوغان ينتحر وينحر تركيا معه

في قصة للكاتب التركي الراحل عزيز نيسين يتحدث عن سجين في أحد السجون التركية مرتكب لجريمة عادية أصيب بخلل نفسي وعقلي وأصبح يجيب من يسأله عن إسمه: أنا علي التاريخي. حتى أصبح شهيرا بين السجناء باسم “علي التاريخي”. ربما هناك اليوم شبهٌ ما بين شخصية “السجين” رجب طيّب أردوغان في قصره- السجن الضخم الذي بناه بنفسه بسبب طموحاته وبين شخصية “علي التاريخي”.

لن يكون الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان أول حاكم يتخبّط يمنةً وشمالاً وهو يحاول إنقاذ سلطانه من سقوط يبدو أكثر فأكثر حتمياً.

لكن رجب طيِّب أردوغان قد يصبح، وقريباً، عيّنةً فريدة على كيف يتحوّل قائد ناجح إلى قائد فاشل، من قائد تقدّمٍ سياسي مدني ينهي وصاية تأسيسية للجيش على الحياة السياسية ومن صاحب برنامج ازدهار واستقرار اقتصادي ومحرِّك لبرنامج مصالحة ديموقراطية مع الأكراد… يتحول إلى مؤسِّس لدولة بوليسية مدنية و”مدير” لحرب أهلية ساخنة مع القومية الثانية (الكردية) في البلد وحرب أهلية باردة مع الطائفة الثانية (العلوية) في هذا البلد.

ها هو الآن يخسر صورته كقائد يستطيع أن يتحمّل فكرة انتقال السلطة وهو يناور منذ الانتخابات الأخيرة التي أسفرت عن نتيجة واضحة يحاول الالتفاف عليها هي حصول معارضيه مجتمعين على ستين بالماية من مقاعد البرلمان بينما تتعرّض تركيا إلى مزيد من المخاطر والخسائر في سياستها في سوريا، وتالياً العراق ويشهد الاقتصاد التركي القوي ملامح ضعف من النوع الخطر جدا في سعر صرف الليرة وتقلّص الاستثمارات الخارجية وأرقام التصدير والآن في وضع أمني بدأ ينعكس على القطاع السياحي في عز فصل الصيف وفي قلب اسطنبول.

أعيد توريط الجيش التركي، أحد أكثر الجيوش المحترمة في العالم، في حرب حقيقية مع الأكراد، وهذا من شأنه أن ينسف، بل هو نسف جهود سنوات من التقارب التركي الكردي المدعوم والمرغوب من النخبة التركية الثقافية الأكثر ديموقراطيةً وإبداعاً في محاولة أردوغانية لإعادة اكتساب الأكثرية الشعبية عبر محاولة تحريك مشاعرها الانتقامية ضد الإرهاب الكردي الذي يبدو الآن أكثر من أي وقت مضى حصيلة الحلقة المفرَغة التي يريد أردوغان إيصال البلاد إليها. في هذا الوقت صار من شبه الثابت هذا الصيف بالنسبة للأجهزة الأمنية الفرنسية أن المخابرات التركية الأردوغانية هي المسؤولة عن قتل النساء الناشطات الكرديات الثلاث في حزب العمال الكردي (PKK) في باريس قبل عامين وبضعة أشهر. ويمكن اعتبار ذلك الحدث بدايةً مبكرة لتجدد الحرب الكردية التركية. هذا ليس رأي الأمن والقضاء والصحافة الفرنسية فقط بل رأي العديد من الناشطين والمثقفين الأتراك.

في قصة للكاتب التركي الراحل عزيز نيسين يتحدث عن سجين تركي في أحد السجون التركية مرتكب لجريمة عادية أصيب بخلل نفسي وعقلي وأصبح يجيب من يسأله عن إسمه: أنا علي التاريخي. حتى أصبح شهيرا بين السجناء باسم “علي التاريخي”.  ربما هناك اليوم شبهٌ ما بين شخصية “السجين” رجب طيّب أردوغان في قصره- السجن الضخم الذي بناه بنفسه بسبب طموحاته التي تحولت إلى “أوهام تاريخية” وبين شخصية “علي التاريخي” الذي رواه القصّاص الساخر عزيز نيسين.

ما لم يُرِد أن يسمعه “رجب التاريخي” قبل عامين ونيِّف هو “رسالة” النخبة التركية من ناشطين سياسيين في المجتمع المدني مدعومين من كتاب وفنانين وأكاديميّين كبار في حديقة غيزي في ساحة تقسيم في اسطنبول صيف 2013 وفحواها المعلن أن تجربتك وحكمك بدآ يترهلان على أكثر من صعيد وكانت ذروتهما فضيحة دعم مخابراته لتنظيم “داعش”. هذا التنظيم الذي يحاول الآن تغطية حربه الكردية بإعلان المواجهة معه، أي مع “داعش” في وقت يؤكد كثيرون وبينهم الباحثة الجادة التركية غونيل تول مديرة مركز الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن أن المخابرات التركية سجّلت في العام المنصرم زيادة ملحوظة في عدد الشبكات السلفية المتأثِّرة بالمتطرفين الإسلاميين في العديد من المدن التركية وهذا كان أحد أجراس الإنذار لدخول الحكومة أو إعلان دخولها “الحرب” على “داعش” مع أنه من غير الواضح حتى اللحظة مدى جدّيتها بسبب توقيت ذلك بالترافق مع الحرب مع حزب العمال الكردي. قالت غونيل تول ذلك في ندوة عقدها المعهد في العاشر من آب الجاري في العاصمة الأميركيّة وبحضور عدد من الخبراء فيما كان يجلس إلى جانبها روبرت س. فورد السفير الأميركي السابق في دمشق المتابع القريب جدا للأحداث في سوريا بل أحد منظّمي العلاقات مع المعارضات السورية منذ البداية. والذي، رغم مداخلته السوريةِ التفاصيلِ جدا لم يعلِّق على هذه المعلومة (الأرجح لأنها لا تلائم “سياسته” السورية!).

يستمر سقوط أردوغان ويبدو مشهده الفعلي الآن هو محاولة وقف مسار لم يعد ممكنا إيقافه، وهذا رأيي منذ أحداث ساحة تقسيم. وكما كتبتُ سابقا: النخبة الطليعية الشبابية والثقافية لا تستطيع عادة التغيير في صناديق الاقتراع بسبب أنها أقلية عددية. ولكنها هي التي تُطْلق جرس التغيير إلى الأمام.

التغيير مستمر وتركيا الحداثية قالت كلمتها وهي ضرورة تجاوز تجربة حزب العدالة والتنمية. الباقي تفاصيل نرجو أن لاتستغرق وقتا. لكن تركيا ستمنع أردوغان من نحرها.