سترزح تركيا كما دول الشرق الأوسط في الفترة المقبلة تحت وطأة تداعيات عملية الانقلاب الفاشلة.
لم تعد مهمّة أسباب فشل العملية بمقدار المسار المستقبلي الذي ستسلكه تركيا في ظل السياسة التي سينتهجها الرئيس رجب طيب أردوغان.
كان من الطبيعي ألّا يتبنّى أحد الانقلاب الفاشل، وتحديداً الخصم التركي المباشر لأردوغان الداعية الإسلامي فتح الله غولن. ذلك أنّه لو فَعل، لكان صعَّب على الولايات المتحدة الأميركية رفض تسليمه إلى تركيا انسجاماً مع احترامه لشروط إقامته في بنسلفانيا.
لكنّ ذلك لا يمنع الاستنتاج بأنّ غولن كان الأب الروحي للضبّاط المتمرّدين. واستتباعاً، فإنّ واشنطن التي حاذرَت التورّط في المغامرة الانقلابية كانت تراقبها من بعيد من دون أدنى شك وتتمنّى لها النجاح ربما.
وقد ذهب البعض إلى أنّ قيام وسائل إعلام عالمية، مع بداية الانقلاب، بنقل معلومات منسوبة الى مصدر عسكري أميركي رفيع تؤكد أنّ أردوغان يسعى للجوء الى ألمانيا، إنّما معناه مساهمة اميركية رمزية في عملية الانقلاب، وتهدف الى إحباط مؤيّدي أردوغان وإجهاض تحرّكهم في الشارع.
لواشطن دفتر حسابات طويل وكبير مع أردوغان. هو ذهب بعيداً في لعبة ترسيخ نفوذ تركيا في شرق أوسط ما بعد «الربيع العربي». وعلى رغم الفشل الذي لاحقه خصوصاً في مصر، سعى إلى لعبة من دون سقف في سوريا عبر «داعش»، وإلى لعبة أخرى خطرة في تركيا.
لم تكن واشنطن منزعجة من تلويح موسكو لأنقرة بالعصا الغليظة، وإن كانت المواقف المعلنة لا تؤشّر الى ذلك، إلّا أنّ «المساندة الكلامية» لتركيا لم تترافق يوماً مع خطوات جدية ما يدفع الى استنتاجات مفتوحة.
وقد تكون أبرز أخطاء أردوغان محاولته هزّ استقرار أوروبا من خلال استغلال موقع بلاده المحوري كجسر إمداد وتواصل مع التنظيمات المعارضة في سوريا.
مع بداية الحرب في سوريا، اكتشف الأمن العام اللبناني جوازات سفر فرنسية مزوّرة وسِمات دخول الى أوروبا «شنغن» مزوّرة يجري بيعها في لبنان. ولاحقاً اكتشفت السلطات الفرنسية أنّ مصدر هذا التزوير عصابات لها علاقة بجهات تركية. الاستنتاج كان يومها: «تركيا تحاول استنساخ الدور الذي لعبه النظام السوري سابقاً بتوريد المشاكل الى أوروبا ومن ثم المساومة عليها من خلال صفقات».
لكنّ الحركة الأخطر كانت مع فتح الأبواب أمام النزوح غير الشرعي للسوريين في اتجاه أوروبا وتسلّل العديد من العناصر الارهابية من بين هؤلاء، ولم يتأخر الأمن الأوروبي بالاهتزاز أمام نشاط خطير لـ«داعش».
ومع بداية عملية الانقلاب الفاشلة، بَدا الموقف الأميركي مترقباً لا أكثر، «الرئيس باراك أوباما يتابع التطورات التركية عن كثب»، كما جاء في الأخبار الموزعة. هو ترقّب أقرب الى السلبية تجاه أردوغان. لكن تبقى لواشنطن أولوية مُطلقة في رؤيتها الاستراتيجية للمنطقة: «ممنوع حصول تشقّقات وتصدّعات خطيرة في الاستقرار التركي».
قد يكون صحيحاً أنّ الانقلابيين قدّموا هدية ثمينة إلى أردوغان تسمح له ببدء عملية تطهير الجيش وتنظيفه من معارضيه بغية الإمساك الكامل بقراره، لكنّ ذلك سيتطلّب منه الانشغال لفترة طويلة في الشأن الداخلي التركي والانسحاب من الملفات الاقليمية بما فيها الملف السوري.
منذ نحو الشهر وقبل العملية الانقلابية، كان أردوغان قد باشرَ بانعطافة سياسية حادة تُناقِض سياسته التي باشَرها عام 2011. وقد يكون ذلك جاء تحت وطأة «العصا» الروسية العسكرية والاقتصادية، إضافة إلى وطأة الدور الجديد الذي بدأ يؤديه الأكراد شمال سوريا، في وقت تخوض تركيا حرباً قاسية مع الأكراد في جنوب البلاد.
لكن من السذاجة حصر أسباب الانعطافة في هذه الأسباب فقط. فلا بد أنّ أردوغان الذي دخل في مرحلة جديدة مُرغماً، لمَس أولاً وجود قرار دولي كبير، وتحديداً أميركي – روسي – أوروبي، بفَرض تسوية على المنطقة بدءاً من سوريا.
ولا بدّ أيضاً من الاستنتاج بأنّ أردوغان أنجَز صفقة سرية تساعده على هذا الدور الجديد لبلاده. ولم تكن على سبيل المصادفة عملية اغتيال المسؤول العسكري لدى الأكراد المعروف بأنه مهندس حرب المدن في تركيا.
وأن يَلي ذلك بعد يومين نجاح قوات إيرانية في قطع طريق الكاستيلو آخر الشرايين التي تربط شرق حلب حيث المعارضة السورية بتركيا. وقد يكون ذلك ما يُفسّر انتقام «داعش» باستهداف مطار اسطنبول.
ماذا يعني كل ذلك؟
سيعني أنّ أردوغان الذي يُدرك جيداً الخلفيات الفعلية للانقلاب الفاشل، قد لا يكون قادراً على الذهاب بعيداً في انتقامه. سيطالب مثلاً واشنطن بتسليم غولن، وهو المدرك أنّ مطالبته ستبقى في الإطار الإعلامي ولن تدخل حيّز التنفيذ.
سينعزل داخلياً ليدخل في مرحلة تطهير طويلة، وهو ما سيُلزمه التمسّك بالصفقة السرية التي التزمها قبل ذلك بأسابيع، ما يعني أنّه سيجري الإطباق على حلب وستعمل القوات الإيرانية، وربما الروسية، مجدداً لاستكمال الحصار الكامل على المدينة من خلال السيطرة على كامل الجرود الخلفية نظراً الى انشغال تركيا بوضعها الداخلي. وبالتالي، اعتبار المدينة بحكم الساقطة عسكرياً، ما يعني خروجها من المعادلة الداخلية نهائياً.
عندما انطلقت الوحدات العسكرية للانقلابيّين في شوارع أنقرة واسطنبول، كان هناك اجتماع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية الأميركي جون كيري حول سوريا. وما رشَح أنه جرى تكريس التفاهم حول «ضمّ «النصرة» إلى «داعش» وفتح باب استهدافهما سوياً. ما يعني أنّ التفاهم طاولَ وضع مدينة حلب حيث لـ«النصرة» الحضور الأكبر والأقوى، وبالتالي إخراج تركيا من الصحن السوري.
وهو ما يعني أيضاً التفاهم على كامل مشروع «سوريا الغد»، الأمر الذي تعتبره موسكو نصراً لها وإقراراً أميركياً بدورها ونفوذها في المنطقة. لكن لا بد من أن تكون واشنطن قد نالت شيئاً في المقابل له علاقة مباشرة بمصالحها الحيوية، فعلى الأقل هذا هو منطق الصفقات بين الدول.
خلال المرحلة المقبلة، سيعمد أردوغان إلى الإمساك بقوة بمفاصل السلطة، وسيضاعف وَهجه في الشارع السنّي، ولا سيما بعد إسقاط دولة «داعش» في العراق وسوريا. لكن في المقابل، سيعمل كثيرون على ملء الفراغ التركي في الشرق الأوسط ولَو من خلال ارتفاع منسوب العنف والحروب.
هي فترة مؤاتية طالما أنّ الصفقات تحتاج إلى الدماء لتنضج، والقرار الدولي ينتظر وصول إدارة أميركية جديدة لإلباس هذه الصفقات الثوب الرسمي الدولي المطلوب.