Site icon IMLebanon

أردوغان… من رئيس إلى سلطان

  

هل يستطيع رجب طيب أردوغان تغيير نظرة «جانوس» بحيث يتطلع إلى شرقي تركيا وشمالها، بدلاً من التطلع نحو بلغاريا ودول الاتحاد الاوروبي؟ هذا هو السؤال الذي طرحته وسائل الإعلام التركية عقب إعلان فوز زعيم «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في انتخابات حزيران (يونيو) الماضي.

 

 

و «جانوس» بحسب الأساطير الرومانية، هو إله الأبواب والبدايات، لذلك صنع له الأقدمون تمثالاً ذا وجهين، يطل واحدهما على الشرق والآخر على الغرب. ويقول المؤرخون إن التمثال كان مثبتاً قبل مئات السنين غرب مدينة إسطنبول على مضيق البوسفور.

 

الدافع الأول والأخير لطرح هذا السؤال الطريف يعود إلى القلق المتنامي لدى الشعب التركي منذ وصول أردوغان إلى السلطة قبل خمس عشرة سنة. وهو قلق متواصل حوّله زعيم «حزب العدالة والتنمية» إلى خوف جماعي، نتيجة سياسته المتقلبة وإصراره على الدخول في عضوية الاتحاد الأوروبي. والملفت أن إصراره على تحقيق هذا الحلم كان يقابَل دائماً بوضع شروط تعجيزية من قبل حكّام دول الاتحاد. وكانت بين أبرز تلك الشروط القضايا المتعلقة بحرية الصحافة، وانتهاج أسلوب دكتاتوري يسمح للرئيس باحتكار السلطة والتغاضي عن فساد أنصاره ومحازبيه.

 

وتقدم المعارضة أمثلة مختلفة على مخالفات أردوغان، أهمها بناء قصر الرئاسة المؤلف من ألف غرفة تتسع لكل أعضاء الحكومة والموظفين التابعين للوزارات. وقد شُيّد فوق رقعة من الأرض تبلغ مساحتها أكثر من مئتي ألف متر مربع. في حين سكن رؤساء الجمهورية السابقون في مقر متواضع يرتفع فوق منطقة «تشانكايا.»

 

أنصار أردوغان لا يعتبرون هذا الإسراف بذخاً يستوجب الانتقاد والاعتراض. وهم يؤكدون أن الضخامة وجدت أصلاً من أجل راحة طاقم الرئاسة وموظفي نظام الحكم الجديد. ويأتي في الطليعة فريق المستشارين الموزعين على تسع هيئات تهتم كل واحدة منها بحقل اختصاصها. وعلى سبيل المثال، هناك هيئة للعلوم والفنون، وأخرى للصحة والنظافة، وثالثة للاقتصاد والتجارة، مع كل ما يتفرع عنها من مكاتب مرتبطة مباشرة بمكتب الرئيس.

 

ويتردد في أنقرة أن أردوغان مهتم بتطوير مكاتب التكنولوجيا والاستثمارات الخارجية، خصوصاً بعدما صُمِّم مطار إسطنبول الجديد لاستقبال تسعين مليون راكب في السنة الأولى. ويقول المهندسون إن تصنيفه يأتي في طليعة مطارات العالم، إن من حيث الحجم (تبلغ مساحته 68 مليون متر مربع) أو من حيث القدرة على الاستقبال. وقد بلغت تكاليف إنشائه نحو 12 بليون دولار.

 

ويفاخر وزير المواصلات والنقل أحمد أرسلان بأن هذا المطار الضخم سيؤمن العمل لأكثر من مليون وستمئة ألف موظف. ولقد اعترض على بنائه «حزب الشعوب الديموقراطي»، خصوصاً بعد نزع يافطة «مطار كمال أتاتورك» من فوق مدخله بغرض تحويله إلى حديقة عامة. وكان من الطبيعي أن يثير هذا التغيير حفيظة الأحزاب المعارضة، فهاجمت أردوغان الذي استغل طوال 15 سنة مؤسس الجمهورية ليبني في ظله جمهوريته الخاصة، ويعمل بكل استطاعته على محو كل أثر يذكّر المواطنين بزعيمهم التاريخي. والدليل على ذلك أنه أمر بهدم «مركز أتاتورك الثقافي» في ميدان «تقسيم»، وبنى فوق أنقاضه «المركز الإسلامي».

 

ومن المؤكد أن المسافة العلمية والثقافية التي تباعد بين مصطفى كمال ومقلده أردوغان تشبه المسافة التي تفصل الأصل عن الظل. ومن الحقائق التاريخية التي يفاخر بها الشعب التركي هي حقيقة الدور الريادي الذي أداه بثبات القائد مصطفى كمال. ذلك أنه نجح في لملمة الشظايا المبعثرة من الإمبراطورية العثمانية المنهارة. وقد سجل له المؤرخون هذه المآثر الإصلاحية باعتباره كان الضابط الوحيد الذي خرج من سالونيك ليؤسس أول جمهورية تركية اختير هو رئيسها سنة 1922.

 

وتتميز مآثر مصطفى كمال بأنه أجرى إصلاحات راديكالية مختلفة فرضها على شعب امبراطورية مهزومة، أهمها: استعمال الأبجدية اللاتينية عوض الحروف العربية في الكتابة التركية وعملة الدولة. وقد منحه الشعب لقب «أتاتورك» -أي أبو الأتراك- بسبب جرأته الاستثنائية في تحقيق إصلاحات ثقافية واجتماعية. وكان من أهم تلك الإصلاحات قرار إلغاء الخلافة من دستور الجمهورية الجديدة، الأمر الذي شجع المدرس المصري حسن البنا على تشكيل حركة «الإخوان المسلمين» التي تبنت فكرة تجديد الخلافة.

 

بالعودة إلى مراجعة أحداث الانتخابات في تركيا، تفاجئنا الصحف المحلية والأجنبية بتركيز أخبارها على شخصية جديدة اقتحمت ميدان السياسية من بوابة علم الفيزياء التي يدرس مادتها في الجامعة. إنها شخصية محرم إينجه المتحدر من أصول سالونيكية مثل مصطفى كمال.

 

ويؤكد المراسلون الذين تتبعوا الحملات الانتخابية، أن أردوغان تضايق من خطب اينجه، بدليل أنه طلب من المواطنين ضرورة «تجاهل مَن يفتقرون إلى الخبرة في إدارة شؤون البلاد.» وعلى الفور، تحداه محرم اينجه ودعاه إلى مناظرة تلفزيونية لم يلبث أردوغان أن اعتذر عن عدم قبولها.

 

وفي مناسبة أخرى، أطل اينجه على جماهير الناخبين ليعلن أنه في حال فوزه سيكون رئيساً لثمانين مليون مواطن وليس رئيساً لـ «حزب الشعب الجمهوري» الذي ينتمي اليه. وفي إشارة رمزية، نزع شارة الحزب عن قميصه واستبدلها بشعار تركيا. وعندما صفق له الجمهور على هذه البادرة، أكمل خطابه بانتقاد أردوغان لأنه حافظ على الأمانة العامة لـ «حزب العدالة والتنمية» على الرغم من فوزه بمنصب رئيس الجمهورية. ومثل هذه الازدواجية لا يسمح بها الدستور.

 

ومن أجرأ الخطب التي واجه بها منافسه أردوغان كان الخطاب الذي وعد به اينجه الشعب ببيع قصر الرئاسة المؤلف من ألف غرفة. كذلك اتهم «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي بأنه افتعل محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 2016 للانتقام من الداعية فتح الله غولن وأنصاره، وحض الولايات المتحدة على تسليمه إلى أنقرة.

 

وبالفعل، أمر أردوغان يومها بمعاقبة عشرات الآلاف من القادة العسكريين، وأساتذة الجامعات، والموظفين الكبار، منتهكاً بذلك حقوق الإنسان وسير العدالة. وبعد أن مدّد حالة الطوارئ، للمرة السابعة على التوالي، أمر مجدداً باعتقال الآلاف من الأشخاص بتهمة الاشتباه في ارتباطهم بغولن وبالمسلحين الأكراد الذين يخوضون تمرداً في جنوب شرقي تركيا.

 

ويتبين من مراجعة سجلات دائرة نفوس طرابلس، شمال لبنان، أن عائلة اينجه يعود تاريخ أفرادها إلى سلسلة حكّام سياسيين وعسكريين اختارهم الباب العالي للخدمة في هذه المدينة منذ سنة 1861م. وفي ذلك الوقت جرى ضم البقاع وأقاليم صيدا وصور وطرابلس وعكار وبيروت إلى الولايات العثمانية المجاورة. وقد عرف سكان طرابلس القدامى عدة عسكريين وموظفين محليين تعود أصولهم إلى سالونيك. وكان أهمهم مصطفى الاينجه وحسن الاينجه، صاحب «الدابة المدللة» التي عرفها سكان السويقة وباب التبانة وأصحاب المحلات المحيطة بالسرايا الكبير، في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي.

 

في ضوء المعلومات التي صدرت عن الحملة الانتخابية، يتوقع الأتراك من محرم اينجه استئناف دوره الريادي في قيادة أحزاب المعارضة ضد أردوغان وأنصاره. وهو حالياً ينشط في المجالات السياسية بهدف إقناع المواطنين بأن «حزب الشعب الجمهوري» يمثل البديل الحيوي من «حزب العدالة والتنمية» الحاكم. وفي حال استمر تصعيد النقاش طوال فترة الرئاسة المحددة بخمس سنوات، فإن أردوغان مضطر إلى معاملة محرم اينجه مثلما عامل فتح الله غولن!

 

والسبب -كما يقول زعيم حزب الوطن اليساري دوغو برنتشيك- إن بناء قصر يتألف من ألف غرفة ليس أكثر من مقدمة لبناء دولة تركية جديدة. وقد ظهرت أولى معالمها بتغيير النظام البرلماني (600 عضو) إلى نظام رئاسي. ومثل هذا التغيير يقتضي إلغاء مبدأ الفصل بين السلطات، مع تعديل أسلوب استخدام السلطة في الدولة.

 

وقد لمّح أردوغان خلال حملته الانتخابية إلى احتمال اختيار نائبه من «حزب الحركة القومية» الذي تحالف معه في الانتخابات. في حين يشكك أنصاره في حصول هذا الاحتمال، لأنه حريص على حصر كل السلطات بشخصه وحزبه. ولكنه تعهد في خطبه الانتخابية أيضاً بضرورة استحداث وزارات إضافية، وتخفيض عدد الوزارات من 26 إلى 16، بعد عملية دمج واسعة.

 

يتوقع فتح الله غولن -وهو في منفاه الأميركي- ألا تكون عملية تغيير النظام السياسي أكثر من مقدمة لمحو كل رموز العلمانيين من تاريخ تركيا، وفي طليعتهم كمال أتاتورك. وهو يرى أيضاً أن صديقه السابق -أي أردوغان- متجه إلى بناء دولة جديدة مستوحاة جذورها من حكايات سلاطين الإمبراطورية العثمانية. وهو في هذا السياق يحاول تقليد الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي صوّت له أعضاء المجلس الأعلى بأن يبقى رئيساً مدى الحياة.

 

كذلك تتوقع العواصم الأوروبية أن تشهد ولاية رجب طيب أردوغان خلافاً حاداً بينه وبين الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حال استبدل تسلحه من أميركا بالتسلح من روسيا. وكانت صفقة صواريخ (أس-400) الروسية سبباً في تأخر تسليم مقاتلات أميركية من طراز (إف-35). وأكد المتحدث باسم الرئيس التركي، إبراهيم كالين، أن بلاده لن تخضع لضغوط واشنطن، ولن توقف تجارة النفط مع إيران.

 

وكما هددت الإدارة الأميركية بطرد تركيا من منظومة حلف شمال الأطلسي إذا هي أتمت صفقة الصواريخ الروسية، علق كالين على هذا الإجراء بالقول إن معاهدة الحلف الأطلسي لا تتضمن مادة تخوّل القيادة المشتركة إنهاء عضوية أي دولة تشتري أسلحة من دولة غير صديقة.

 

هذه السياسة الخارجية التركية المستقلة يمكن أن تتحول تدريجياً إلى قنبلة موقوتة تفجر الخلاف مع الولايات المتحدة التي اتخذت قراراً بمقاطعة إيران ومقاطعة الدول التي تتعامل معها. وأكبر عقاب يمكن أن تمارسه الدول الغربية ضد تركيا هو طردها من حلف «الناتو». وترى موسكو في هذه الخطوة المحتملة فرصة تاريخية لبناء حلف مضاد تتألف نواته من تركيا وإيران وروسيا… وسورية والعراق!

 

* كاتب وصحافي لبناني