يروي التاريخ أنه في 24 آب 1516 وقعَت معركة «مرج دابق» بين العثمانيين والمماليك، بعد فشَل محاولات الصلح بين قائد المماليك يومها قانصوه الغوري والسلطان العثماني سليم الأوّل. يومها، حقّق العثمانيون فوزاً ثميناً استَكملوه بالسيطرة العسكرية على كامل المنطقة، مدشّنين حقبةً تاريخية استمرّت زهاء 400 عام من حُكمهم.
قيلَ إنّ لاختيار تاريخ 24 آب لدخول الدبابات التركية إلى جرابلس التي تَبعد زهاء السبعين كلم عن دابق، خلفية تاريخية. وقد يكون ذلك صحيحاً،
خصوصاً أنّ الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان مسكون بهاجس استعادة النفوذ العثماني.
لكنّ اختيار تاريخ الدخول لا يعكس الأبعاد الفعلية والحقيقية لهذا التحوّل في مسار العلاقة السورية – التركية. فالطموح التركي أصبح أكثر واقعيةً بعد أكثر من خمس سنوات من الحرب في سوريا أنتجَت تحوّلات ديموغرافية كبرى وأدّت إلى ظهور قوى ومجموعات تحظى برعايات خارجية مختلفة وتشكّل جيوشاً محلية صغيرة تُستخدَم في معارك تثبيت النفوذ ولها مصالحُها الخاصة، مثل الأكراد الذين حَظوا برعاية روسية وأميركية مشتركة مقرونةً بطموح جامح لإنشاء دولتهم أو حتى كيانهم عند الشريط الملاصق للحدود مع تركيا والسعي إلى وصلِه بالكيان الكردي في العراق.
وبعد فشلِ الانقلاب العسكري في تركيا وتصاعُد الحملة في وجه واشنطن عبر اتّهامها بالوقوف وراء الانقلاب، حاوَل أردوغان المدرك جيّداً استحالة فرضِ طلاق استراتيجي مع الولايات المتحدة الاميركية، اقتناصَ مطالب عملية ومحدّدة كتعويض.
فطالبَ بتسليمه عدوَّه اللدود فتح الله غولن الوحيد القادر على تهديد حكمِه من خلال قاعدته الإسلامية الثابتة والقوية داخل مؤسسات الحكم في تركيا، وبضرب «دويلة» الأكراد الآخذة في النموّ قرب حدود تركيا. قالها صراحةً: على واشنطن أن تختار بين تركيا والأكراد.
في الحقيقة، إنّ وراء التدخّل العسكري التركي ثلاثة عوامل أساسية:
1 – المرحلة التي تلت الانقلاب الفاشل والتي فتحَت شهيّة أردوغان لاغتنام الفرصة وإقصاء كلّ خصومه دفعةً واحدة من خلال عمليات تطهير واسعة أصابَت بشكل أساسي الجيش التركي، ما أدّى إلى تراجع معنويات أفراده إلى الحضيض، وهو ما بات يشكّل خطراً مباشراً على الاستقرار الداخلي لتركيا. لذلك فإنّ فتحَ بابِ المعارك مع «داعش» والأكراد سيؤدي إلى توحيد الأتراك وراء الجيش في معاركه، ومنحِه انتصارات سهلة تُعيد إليه معنوياته وفي الوقت نفسه يستطيع الرئيس التركي توظيف هذه النجاحات في إطار حملاته الداخلية.
2 – بدا واضحاً أنّ الضربات المتلاحقة والجدّية التي بات يتعرّض لها تنظيم «داعش» منذ بضعة شهور أدّت إلى تفكّك أوصاله واضطراب في خطوط مواصلاته وانهيار بنيتِه التحتية العسكرية، وهو ما ظهرَ بوضوح مع تراجعِ قدراته القتالية مع فرار مقاتليه من منبج ونجاح الأكراد في السيطرة على البلدة.
ما يعني أنّ تَرك مهمّة القضاء على «داعش» على المجموعات الكردية مسألة بالغة الخطورة بالنسبة إلى تركيا، كون ذلك سيكرّس مبدأ التواصل المبدئي بين المناطق الكردية ويؤدّي إلى واقع جديد يصعب على تركيا لاحقاً ضربَه.
فكان الاتفاق الدولي ولا سيّما الاقليمي مع إيران ودمشق، بحيث إنّ عنوان المواجهة هو مع «داعش» فيما الهدف الفعلي قطعُ الشريط الكردي. وتكفي الإشارة إلى قيام الطائرات الحربية السورية فجأةً بقصف الأكراد قبل أيام من دخول الدبابات التركية، بحيث كانت إشارةً ميدانية إلى أنّ دمشق ومعها طهران موافقتان على فتحِ ملفّ الأكراد شمال سوريا.
والإشارة الثانية كانت واضحةً، لا بل فجّة، وجاءت على لسان نائب الرئيس الاميركي جو بايدن خلال زيارته إلى تركيا والتي تزامنت مع عبور الدبابات التركية وهي ترفَع علم الحِلف الأطلسي الى جانب العلم التركي، حيث طلِب من القوات الكردية عدم دخول مناطق غرب نهر الفرات، وتلاه وزير الدفاع التركي الذي قال إنه إذا لم يحصل الانسحاب فلا مفرّ من التحرّك العسكري.
وإذا كان واضحاً بدء تقويض حلمِ الكيان الكردي السوري المستقل، لكنّه يمثّل في هذه المرحلة على الأقلّ حدودَ منطقة عمليات الأتراك، ربّما في انتظار ولادة التفاهم النهائي والكامل حول التسوية السياسية، ولو أنّ المصالح الحيوية الاميركية والروسية قد لا تقبل بضربِ كاملِ الحضور الكردي في سوريا.
3 – وهو العامل الأهم، ويتعلق بالتقدّم الكبير على مستوى التسوية السياسية لسوريا والجاري صياغتها خصوصاً بين واشنطن وموسكو، ومن خلفِهما الأطراف الإقليمية.
وبخلاف الأجواء السلبية التي سادت عقبَ اللقاء الذي جمعَ جون كيري وسيرغي لافروف، فإنّ الأوساط الديبلوماسية المطّلعة تحدّثت عن تفاهمٍ واسع حصَل بين الرَجلين، ولو أنه لا يزال يحتاج لبعض الجهد ليكتمل.
وتورِد هذه الأوساط أدلّة ميدانية على هذا الكلام. فإضافةً إلى الخطوة التركية في جرابلس في ظلّ التقارب التركي – الروسي – الايراني والتواصل الامني السرّي بين الاتراك والنظام السوري، فإنّ خطوةَ «تسليم» داريا إلى النظام ما كانت لتتمّ لولا وجود مناخ سياسي إقليمي مؤاتٍ. فخطوةٌ كهذه تعني تأمينَ حماية إضافية للنظام في دمشق وإنهاءَ كلّ المناطق التي كانت مؤهّلة للضغط عليه في العاصمة السورية.
وبعيداً عن سوريا، هناك التسوية الصعبة في اليمن، وكلام وزير الخارجية الاميركية الحاسم في هذا الإطار: «إنتهى وقت الحرب، واذهبوا جميعاً إلى التسوية السياسية».
وخلال زيارته الأخيرة إلى تركيا، سمعَ الرئيس سعد الحريري من أردوغان مباشرةً وبعبارات واضحة أنّ المنطقة متّجهة إلى واقع جديد. وهو قال لزائره اللبناني: «أتوقّع تحوّلات كبرى لصالح السلام في المنطقة قبل نهاية هذا العام، لكنّني أحتاج لبعض الاتّصالات الإضافية لتبيان كلّ الأبعاد لهذه التحوّلات المقبلة».
أردوغان الذي يتعمّد تخصيصَ الحريري باستقبالات مميّزة، مرّةً مِن خلال وضعِه إلى جانب رؤساء الدول خلال زواج نجلِه، ومرّةً أخرى بتصنيف مماثِل مع تدشين الجسر الجديد، حرصَ على شكرِ الحريري على موقفه الداعم له فورَ وقوع الانقلاب «… وهو ما لم تقدِم عليه العديد من الدول». كرّر أكثرَ من مرّة أنّ أيّ حلولٍ مقبلة لن تكون أبداً على حساب الحريري، أيّاً تكن الظروف والأوضاع.
الواضح أنّ أردوغان يسعى لتأمين مساحة نفوذ له، بعدما نجَح بذلك في سوريا، متّكئاً على المعادلة الإقليمية الجديدة التي تضمّ روسيا – تركيا – إيران.
لكنّ الأوساط الديبلوماسية تؤكّد أنّ واشنطن ولأسبابٍ مختلفة ستُبقي على النفوذ السعودي المؤثّر من خلال السُنّة.
في المحصّلة، تبدو المنطقة وكأنّها تَدخل فعليّاً في الفصل الأخير. قد تكون مرحلة التسويات أصعبَ وأشدّ، إلّا أنّ زمنَ الحروب المفتوحة بات عند نهايته. لكن هذا لا يعني أنّ المعارك والمناوشات والاحتكاكات الدموية ستنتهي.
أخيراً نُسِب إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني قوله إنّ تطبيقَ الغرب للاتفاق النووي سيسهّل المفاوضات حول أزمات المنطقة، واعتُبر كلامه مؤشّراً إضافياً لقربِ ولادة التسويات.
لا بل حتى الاحتكاكات العسكرية الأميركية – الإيرانية يراها الخبراء الغربيون من منظار إيجابي وخلفية ملائمة، كون الطرفين الأميركي والإيراني في حاجة لاستثمار أحداثٍ من هذا النوع في الحياة السياسية الداخلية.