منذ ما قبل اندلاع الثورة في سوريا في آذار من العام ٢٠١١ لم نعد نسمع خطباً أو تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ولا لأي من المسؤولين في إدارته عن انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، وقد لفتت المراقبين التصريحات المتكررة المستجدة لوزير الخارجية التركي شاويش أوغلو والتي قال فيها: “إن عملية دخول جمهورية تركيا إلى مجتمع الدول الأوروبية يجب تسريعها”. ويتابع معلقاً “إن الإتحاد الأوروبي يتبع سياسة متهورة، ويفسد العلاقات مع أنقرة ويبعد عنه الدولة الكبيرة الوحيدة التي لا تزال تسعى جاهدة لتصبح عضواً في الاتحاد”.
هذا الأمر يدعو للتساؤل عن سبب تصريحات وزير الخارجية التركي في الأيام القليلة الماضية وعن توقيتها؟
يبدو أن اختيار الوقت قد جاء من خلفية تحريك ملف إدلب واستخدام نزوح آلاف المدنيين من المدينة وريفها بسبب المواجهات العسكرية المستجدة بين قوات النظام مدعومة من القوات الروسية، وقوات المعارضة السورية مدعومة من الجيش التركي، والدفع بموجة جديدة من اللاجئين من إدلب السورية باتجاه أوروبا، ما يبقي التهديد الذي يواجه الاتحاد الأوروبي من التدفق الجديد غير المنضبط للمهاجرين قائماً بأي لحظة.
بالطبع، لعب الاتفاق الذي تم التوصل إليه في منتصف آذار الماضي بين روسيا وتركيا لتجميد المرحلة التالية من الصراع السوري، دوراً إيجابياً في منع وقوع كارثة إنسانية في منطقة إدلب والمناطق الحدودية الأخرى. ومع ذلك لا يزال أكثر من مئة ألف من سكان إدلب يفرون من خط الجبهة إلى الحدود، وقد تسرب بعضهم بالفعل إلى تركيا على أمل الانتقال إلى أوروبا. لذلك، فإن مشكلة موجة جديدة من الهجرة غير الشرعية، وحتى في خضم جائحة الفيروس التاجي كورونا للاتحاد الأوروبي، ستستمر قائمة… وإذا كانت السلطات الأوروبية خائفة من اختراق الجهاديين لحدودها، فقد أضيف الآن خطر فيروس قاتل إلى هذا الرهاب. وتجدر الإشارة إلى أنه في سوريا والعراق وتركيا، لوحظت بالفعل حالات إصابة بـ COVID-19. في الوقت الذي برز فيه أن أحد أهم مراكز الوباء الإقليمي لفيروس كورونا هو في إيران المجاورة.
بطبيعة الحال، في بروكسل والعواصم الأوروبية الأخرى تظهر جراء ذلك حالة متوترة بشكل خطير. من هنا يمكن تفسير تصريحات وزارة الخارجية التركية بالرغبة في ابتزاز أوروبا مرة أخرى بالتهديدات “بفتح بوابات لتدفق المهاجرين من سوريا”.
ورقة ضغط
اختارت أنقرة لحظة مناسبة لتذكير الهياكل الأوروبية بأنها لا تزال تعتبر نفسها جزءاً مهماً من المجتمع الأوروبي ولن تتخلى عن خطتها لمزيد من الاندماج في هياكل الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه يستخدم الأتراك ورقة اللاجئين السوريين للضغط على الأوروبيين من أجل زيادة تكلفة الحفاظ على أكثر من 3.6 ملايين سوري تمركزوا سابقاً في تركيا.
والسؤال المنطقي هنا هو: لماذا تسعى أنقرة، رغم معارضة قيادة الاتحاد الأوروبي، بعناد لتصبح عضواً كامل العضوية في أوروبا الموحدة؟ تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، وجيشها في الحلف هو الأكبر بعد الولايات المتحدة من حيث الأعداد والأفراد العسكريين. لذلك، تعتبر القيادة التركية، أن بلدها ليس مجرد قوة إقليمية، بل هو قوة رئيسية أوروآسيوية. ومن هذه الخلفية تعمل أنقرة بشكل متزايد على زيادة نفوذها في الشؤون القارية. ويمكن وصف السياسة الخارجية للرئيس أردوغان بحق – بسياسة العثمانيين الجدد – فليس من قبيل الصدفة أن يعتبر أردوغان أن البلقان وسوريا والعراق أراضي تركية متكاملة، وشهواته تمتد اليوم إلى ليبيا وقبرص وقطاع غزة (فلسطين).
وتنتشر “القوة الناعمة” التركية في جميع الاتجاهات. تعزز أنقرة موقعها في البلقان. هناك نفوذ تركي في جمهورية كوسوفو غير المعترف بها، جزئياً عبر كرواتيا وبلغاريا. ولا ينبغي أن ننسى أن الشتات التركي هو قوة فعالة للغاية في ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى، حيث يعيش أكثر من ستة ملايين تركي في ألمانيا وحدها، وأصبح العديد منهم مواطنين في تلك البلاد ويحتل بعضهم مواقع في السلطة. ونحو نصف مليون من نخبة من الشركات التركية – الأوربية المتوسطة والكبيرة. يشاركون بنشاط في الحياة السياسية للبلدان المضيفة، ويصبحون نواباً للبرلمانات الإقليمية والفدرالية، ويشغلون مناصب في الهيئات التنفيذية.
وبدعم من هيئات تركية تستمر عملية الأسلمة في أوروبا؛ فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، تم إغلاق نحو 600 كنيسة مسيحية في ألمانيا وفتح نحو 400 مسجد. فتركيا “أردوغان ” تلعب دوراً رائداً في هذه العملية.
من المرجح أن ميفلوت شاويش أوغلو قرر الاستفادة من المشاكل التي تمت مواجهتها في أوروبا، ولا تزال لديه ورقة رابحة في جعبته في شكل تيار غير منضبط لمئات الآلاف من المهاجرين. وفي المدى المنظور تريد أنقرة زيادة مبلغ التعويض من ميزانية الاتحاد الأوروبي لصيانة مخيمات اللاجئين السوريين وتخفيف الشروط القاسية غير المعقولة في رأيها التي وضعت من قبل الاتحاد الأوربي سابقاً لانضمام تركيا إلى الاتحاد، ومن دون شك يفضّل رجب أردوغان أن يحصل انضمام تركيا للإتحاد في زمانه.
في وقت سابق، طالب المسؤولون الأوروبيون أنقرة بإضفاء الطابع الديموقراطي على النظام القضائي ومجالات الحياة السياسية والعامة الأخرى، وبحل عادل للمشكلة الكردية. واليوم وباستخدام سلاح اللاجئين السوريين يأمل أردوغان أن تخفف بروكسل من شروطها لضم تركيا للإتحاد الأوروبي. لذلك اختار شاويش أوغلو في تصريحاته الأخيرة اللحظة المناسبة لتذكير أوروبا بدولة الثمانين مليوناً وبجيشها القوي، وصناعتها المتطورة بشكل كاف، والتي تلعب دوراً مهماً في الشرق الأوسط، وتحتل دوراً مهماً في الإتصالات الاستراتيجية العالمية (روسيا – أميركا). أصبحت تركيا أيضاً مركزاً رئيسياً للطاقة ويمكن أن تلعب أنقرة دوراً مهماً للغاية في سوق النفط والغاز الأوروبي في المستقبل غير البعيد.
لذلك، اختار الرئيس أردوغان سياسة الضغط المستمر على الاتحاد الأوروبي، مذكراً في كل فرصة بأن الجيش التركي يقع في الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي ويفعل الكثير ليس لحماية حدود الاتحاد الأوروبي في هذا الاتجاه فحسب، ولكن أيضاً لدمج جورجيا وأذربيجان في تحالف شمال الأطلسي. ومع ذلك يستبعد المراقبون أن تكون هناك استجابة سريعة من بروكسل أو باريس أو برلين لطموحات أردوغان، ولكن من المحتمل جداً أن تزيد دول الاتحاد الأوروبي مساهماتها في صيانة مخيمات اللاجئين السوريين. أو، مرة أخرى، قد يقدمون للرئيس التركي الدعم السياسي لأفعاله في الشرق الأوسط.