Site icon IMLebanon

مغامرة إردوغان السورية: الجذور والدوافع

 

بشكل ما يمكن القول إن «القالب» الذي ارتسمت الجمهورية التركية، بشكلها الحالي، بين جنباته، كان بريطانياً بامتياز. والشاهد هو أن «اتفاقية لوزان 1923» كان قد خطّها «القلم» البريطاني من بابها إلى محرابها. وفي التفاصيل، يمكن تلمّس الدور والوظيفية لذلك الكيان الناشئ ما بعد التوقيع عن تلك الاتفاقية، وهما بالدرجة الأولى انصبّا على أن يكون الأخير «موازناً» إقليمياً لإيران، التي كانت لندن تبدي قلقاً تجاه قدراتها، وكذا تجاه التحولات التي يمكن أن تطرأ عليها، على الرغم من أن الحكم فيها، زمن توقيع الاتفاقية، كان تحت راية «آل بهلوي» الوثيقي الصلة بالإنكليز، لكنّ الأخيرين، المعروفين بنظرتهم وحساباتهم البعيدة، كانوا متحسبين لاحتمال صعوبة ضبط التركيبة الإيرانية، بكل حمولاتها الحضارية، تحت تلك الراية لأمد طويل.

كانت الظروف والشروط المتغيّرة تلقي بظلالها على وظيفية الكيان التركي الجديد الذي ولد على مبعدة ستة أعوام من وصول البلاشفة إلى حكم الكرملين، الأمر الذي نتج عنه «قطب» شرقي ينافس نظيره الغربي على العالمية. وفي السياق برزت «هضبة الأناضول» كجغرافيا لا بديل عنها في سياقات تلك المنافسة، ومع صعود أدولف هتلر إلى السلطة في برلين عام 1933 كان من المقروء، بريطانياً، أن القارة الأوروبية ماضية نحو تحولات من الصعب التنبؤ في إلى أين سوف تصير. وفي السياق، ذهبت لندن إلى تقديم «وجبة دسمة» من النوع المعزّز لرسوخ الكيان، كانت قد تمثلت باتفاقية «مونترو» عام 1936، التي منحت أنقرة حق السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل. و»الوجبة» في مراميها البعيدة كانت تهدف إلى ضمان عدم انجرار الأخيرة إلى تحالف مع برلين، كما فعلت عام 1914، في مقبل الأيام التي بدت حبلى بل وعلى أبواب أن تضع حملها. وهي من حيث النتيجة أدّت الأغراض منها حيث كان الموقف التركي، الأقرب إلى الحياد، فاعلاً في النتائج التي آلت إليها الحرب، من حيث إن الجغرافيا التركية لعبت دور «الفاصل» ما بين هتلر واندفاعته تجاه منطقة الشرق الأوسط.

إبّان مرحلة الحرب الباردة، التي تكشّفت ملامحها فور الإعلان عن نهاية الحرب العالمية الثانية، مضى الغرب إلى الشد بأنقرة نحو «الناتو»، الذي أضحى ذراعاً هي الأهم في مواجهة القطب السوفياتي وما ابتناه حوله من جدار عازل على الضفة الشرقية من أوروبا. لكنّ الانضمام التركي إلى هذا الأخير، الحاصل عام 1952، كان ذا مرمى يتعدّى في حساباته دور «الدرع» الغربي في مواجهة السوفيات، ليصل إلى دور هو أشبه بـ»العبّارة» نحو التأسيس لجناح شرق أوسطي لـ»الناتو». هذا التوجه ظهر في محطات عديدة كان أُولاها مشروع «قيادة الشرق الأوسط» 1951، ثم في «حلف بغداد» 1955. والجدير ذكره في هذا السياق أن المحاولة إياها لم تقف عند حدود تعثر المشروعين السابقين، وإنما ظلت طَبعاتها تبين من لحظة وأخرى مما يمكن لمسه في «اتفاقات أبراهام»، الموقّعة بين إسرائيل والإمارات عام 2020. بل إن الحديث عنها بات أشد وضوحاً ما بعد «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر العام الماضي. كان ذلك حالة احتياج غربية – تركية مشتركة، لكن أنقرة كانت ترى فيه تعزيزاً لكينونتها المليئة بالتناقضات التي يمكن لها أن تطفو على السطح فور انحسار الدور، والدعم الخارجييْن. في النظام الدولي الجديد، ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، برزت إلى السطح التركي العديد من المؤشرات المقلقة للغرب، أولها كان في توجه تورغوت أوزال «الطوراني» 1991 – 1993، الذي يقوم على مد الجسور نحو عالم تركي في نسيج الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي. وثانيها «التوجه الإسلامي» الذي تبنّته حكومة نجم الدين أربكان 1996 – 1997، ومن خلاله جهدت على إنشاء تشكيل رباعي، تركي-إيراني-سوري-عراقي، ردّاً على سياسة «الاحتواء المزدوج» التي أطلقتها واشنطن في وجه طهران وبغداد. أمّا ثالثها فكان رفض البرلمان التركي استخدام القوات الأميركية للأراضي التركية إبان غزو العراق عام 2003. وفي أتون القلق الغربي حيال هذا التقلب التركي بدا وكأن أنقرة مهدّدة بفقدان وظيفيتها المرتسمة منذ «لوزان» والمتلونة في المحطات الآنفة الذكر.

مع هبوب رياح «الربيع العربي»، كان إردوغان أول الملتقطين لتلك «اللحظة»، ومن خلالها سعى لتسويق نموذجه «الإسلامي المعتدل» في مواجهة نظيره «الراديكالي» الذي تكشّفت ملامحه في نيويورك شهر أيلول من عام 2001. وما جرى هو أن المسعى أعاد إلى الوظيفية بعضاً من بريقها على امتداد عامي 2011 و 2012 بالتزامن مع رؤية تبناها باراك أوباما كانت تصب في ذات الاتجاه، إلا أن الافتراق عاد مع حلول الذكرى الحادية عشرة لأحداث نيويورك التي شهدت اغتيال السفير الأميركي ببنغازي على يد جماعات إسلامية كانت مدعومة من واشنطن مباشرة. ومن حيث النتيجة فشلت أنقرة في بث الروح من جديد في دور خارجي لا غنى عنه لـ»تغييب» رزمة التناقضات الداخلية التي تهدد، فيما لو انفلت عقالها، بضرب التركيبة التركية التي تسودها، منذ نشوئها، طائفة لا تتعدى نسبتها الـ 52 % من السكان، وفي ما تبقّى هناك العديد من الطوائف والعرقيات التي تعيش حالاً من التململ كثيراً ما برزت ملامحه في ثورات الأكراد، مرحلة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وكذا المد اليساري الذي شهدته البلاد مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

على امتداد الأعوام العشرة الماضية لم تنجح سياسات إردوغان القائمة على التنقل ما بين الحضنين الروسي والأميركي، في تحقيق إنعاش للدور التركي ولا لاقتصاده، والأخطر هو أن شريكته في «الناتو» كانت قد استبعدته أخيراً من مشروع «الممر الهندي»، وهذا تهديد مباشر للوظيفية التي إن تلاشت تماماً، بات لزاماً على «القاع» أن يقذف بكل ما يحتويه.

ما تريد هذه السردية قوله هو أن عملية حلب 27 تشرين الثاني الماضي، التي كانت بإخراج تركي تام، ليست تعبيراً عن القوة بقدر ما هي تعبير عن النقيض من هذه الأخيرة. وما أراده إردوغان منها هو إرسال رسالة إلى الغرب مفادها أن لديه القدرة على إتمام ما بدأته إسرائيل في غزة ولبنان خلال الأربعة عشر شهراً الماضية. وإذا ما اضطرت الأخيرة إلى وقف «نصف حربها» فهو على استعداد لإكمالها، على ضفة أخرى، لا تقل أهمية عن تلك التي توقفت فيها.

* كاتب سوري