فتَحت تركيا رجب طيّب أردوغان واجهةً لنفسها على البحر الأحمر عبر السودان التي يتحدّى رئيسُها عمر البشير كلّاً من مصر والسعودية برفضِه اتّفاقية تحديد الحدود البحريّة بينهما بحجّة السيادة السودانية على منطقة حلايب وشلاتين على البحر الأحمر.
فلقد قدَّم البشير الى أردوغان هديّة إدارة جزيرة «سواكن» القريبة جداً من مضيق «باب المندب» الممرّ العالمي للملاحة المؤدّي الى قناة السويس وذلك تحت غطاء إعادة بناء الميناء والاستثمار في الجزيرة لفترة زمنيّة مفتوحة الأفق.
هذه النقلة في التحالفات الاستراتيجيّة مع رجب طيّب أردوغان، العدوّ اللدود للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تضمَن لأنقرة تواجداً مهمّاً على البحر الأحمر، في الوقت الذي تقوم فيه السعودية ومصر ببناء مشاريع مستقبليّة ضخمة على البحر الأحمر بما في ذلك مشروع مدينة «نيوم».
إنّما «اتفاقية سواكن» ليسَت وَحدها التي أثارت غضَبَ مصر من التصرّفات السودانية. فلقد صعَّدت الخرطوم مواقفَها في المفاوضات الثلاثية بين مصر والسودان وأثيوبيا حول «سدّ النهضة» وأرفقت ذلك باستقبالها رئيسَ أركان القوات المسلّحة القطري فور انتهاء الزيارة الأولى لرئيس تركي إلى السودان.
هذا في الوقت الذي وصَلت فيه دفعة أخرى من القوّات التركيّة الى قاعدة الريان في الدوحة، ما اعتبرَته القاهرة رسالة عداءٍ تركيّة متعدِّدة المواقع كان آخرها من المحطة التونسيّة حيث حيّا أردوغان الجمهور بشعار «رابعة» الذي بات يُمثّل تحية «الأخوان المسلمين» الرسمية.
رسائل أردوغان إلى السيسي عنوانُها أنّ النفوذ التركي سيكون طاغياً أينما كان، بما في ذلك القارّة الأفريقيّة التي اعتبرَتها مصر خارج امتداد اليد التركيّة. لذلك قام أردوغان بجولته الأفريقية وتحدّثَ عن سعي أنقرة لفتح سفارةٍ لها في العاصمة الليبية وعن دعمِه مبادرةَ الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي للتسوية في ليبيا.
إختيارُ أردوغان لتونس محطّة رئيسيّة في جولته الأفريقية ليس قراراً اعتباطياً. فهناك في العاصمة التونسية موقع «الأخوان المسلمين» المهم. هناك أعلنَ أردوغان عن تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي والتجاري فقدَّم القروضَ بقيمة 30 مليون دولار وأشاد بـ«التجربة التونسية في التوافق السياسي»، في إشارة واضحة إلى انضمام «الأخوان المسلمين» إلى الحكم في تونس.
النخبة العلمانية في تونس قرأت بين سطور الزيارة الأولى لأردوغان واعتبرَتها رسالة فرضِ النفوذ التركي و»الأخواني» على التركيبة الداخلية التونسية، ولذلك احتجَّت هذه النخبة المناهضة لسياسات أردوغان على رسائله الواضحة والمبطّنة على نسقِ التعاون الاستخباراتي وتحيّة «رابعة».
أردوغان اختار المحطّة التونسية للإعلان أنّ مِن المستحيل إحراز أيّ تقدّم في سوريا مع وجود بشّار الأسد. ووصَف الأسد بأنه «إرهابي» و»مارَس إرهابَ دولة» على شعبه و«لا مكان» له في الحلّ «وليس من الممكن السير في الحلّ مع بقائه في السلطة» و»عليه أن ينسحب من اللعبة».
هذا التّصعيد لافتٌ نظراً لنوعيّة العلاقة التركيّة – الروسية في سوريا والتي تتقاطع على المصالح الروسية والتركيّة والإيرانية. لافتٌ لأنّ أردوغان تجنَّبَ لفترةٍ طويلة التعبير عن مواقفه من الأسد ومصيره بعدما لمَّح وزير خارجيّته بإمكان قبول أنقرة بمشاركة الأسد في الحلّ السياسي.
وها هو الآن يتحدّث باللغة القديمة التي ميَّزَت الخطاب التركي نحو الأسد، ممّا هو مؤشّر على تعقيدات في التفاهمات الثلاثيّة، الروسيّة – التركيّة – الإيرانيّة، في شأن الحلّ السياسي في سوريا.
وأتت ردودُ الفعل السوريّة لتوضحَ الافتراق، إذ تضمَّنت وصفَ أقوال أردوغان بأنّها «فقّاعاته المعتادة في محاولةٍ يائسة لتبرئة نفسِه من الجرائم التي ارتكبَها بحقّ الشعب السوري عبر تقديمه الدعمَ اللّامحدود بمختلف أشكاله للمجموعات الإرهابية».
أردوغان لربّما حصَل على جزءٍ كبير ممّا يُريده في سوريا بالرغم من فشلِ تصاميمه الكبرى. فقد أبرَم الصّفقات ضدّ الأكراد، وهو قامَ بإصلاح العلاقات مع إيران.
وهناك في سوريا تمكّنَ رجب طيّب أردوغان من التوصّل إلى مرتبةِ الشراكة مع روسيا لاستخدامها في وجهِ التحالف مع الولايات المتحدة وأوروبا ضمن «حلف شمال الأطلسي» (ناتو).
كلّ هذا لا يعني أنّ رجب طيّب أردوغان قد وصَل ضفّة الأمان. فهو في علاقة متوتّرة مع أوروبا، بالذات ألمانيا، لعدة أسباب، مِن بينها النظرة إليه بأنّه راعٍ للتطرّف الإسلامي. إدارة ترامب لا تثِق به سيّما وأنّها اتّخَذت قرار اعتبار «الأخوان المسلمين» جزءاً أساسياً من الراديكاليّة الإسلاميّة.
خليجياً، موقفُ أردوغان ليس مريحاً تماماً، فهو يسعى لخلقِ نوعٍ من التوازن بين تحالف تركيا الاستراتيجي مع قطر وبين الاحتفاظ بعلاقات جيّدة مع السعودية. المعضلة الحقيقيّة هي في أنّ تركيا أردوغان تريد امتلاك القيادة السُنّية باستبعادٍ لمصر والسعودية وأنّ هناك علاقة ثلاثيّة سعودية – مصرية – إماراتيّة ترى أنّ عمودَي المحور العربي في التوازن الإقليمي هما الرياض والقاهرة.
شهيّة رجب طيّب أردوغان منفتحة على رائحة العظمة والنفوذ الإقليمي والتموضع الدولي. إنّما سُمعتُه تُطوّقه، إذ إنّه يُعتبَر مساهماً أساسياً في إنماء حركات التطرّف الإسلامي بنموذجَي مصر وسوريا، وأنّ مشروعَه هو مشروع لا إجماع عليه عنوانه المواجهة ورفضُ الاعتدال.
هذا لا يَنفي أهمّية ما يُنجزه رجب طيّب أردوغان إنْ كان في تحالفه مع قطر، أو في تفاهماته مع إيران، أو في شراكته مع روسيا، أو في انفتاحه على أفريقيا، أو في اتفاقية «سواكن» مع السودان حيث الخوف من أن يكون هدفها الحقيقي إنشاءَ قاعدة عسكريّة تركية على البحر الأحمر.
إحياءُ الرئيس السوداني عمر البشير وانتشاله من المحكمة الجنائيّة الدولية عمليّة شارَك فيها الكثير من القيادات العربية والإسلامية، أبرزُها اليوم التركيّة والقطرية. هديّة البشير إلى أردوغان ليست هامشية بل هي ثقيلة العيار سيّما في موازين القوى الإقليمية.