عن تركيا أيضاً وأيضاً… يغرق الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في ورشة «تطهير» الدولة بكل إداراتها من مؤيّدي فتح الله غولن المتهمين بتدبير الانقلاب الفاشل الاخير، ليقيم نظاماً «خالصاً ومخلصاً» لحزبه «العدالة والتنمية» واتخاذ خيارات جديدة في شأن مستقبل موقع تركيا وعلاقاتها الاقليمية والدولية ودورها في المنطقة.
ورشة التطهير هذه تطاول أولاً الجيش الذي اعتُقِل منه حتى الآن أكثر من مئة ضابط من ذوي الرتَب العالية، وتمّ تسريح نحو 90 ألف عسكري، فضلاً عن إلغاء وحدات وأجهزة ضمن المؤسسة العسكرية، وكذلك طاولت الجهاز القضائي وقطاع المدارس والتعليم وكل مؤسسة من مؤسسات الدولة، حيث يعمل أردوغان على اجتِثاث كل جماعة غولن منها، الى درجة انّ التطهير شمل المسؤول عن أمنه الخاص، فضلاً عن تغيير كل عناصر جهاز الحرس الرئاسي.
وهذه الورشة سيستغرق فيها أردوغان لفترة طويلة حتى يتمكن من إرساء النظام الذي يواليه مئة في المئة ويطمئنه الى مستقبل حكمه، وفي هذه الحال لن يكون لديه اهتمام خارجي ملحوظ، ما سيُقلّص الى حدّ كبير دوره الاقليمي، وتدخّله في الأزمة السورية التي بدأ الأميركيون والروس يتوقعون توافر حلول لها بدءاً من آب المقبل.
لكنّ اردوغان في ما يقوم به قد يواجه صعوبات واعتراضات، وربما اضطرابات كثيرة، قد تتأتّى من ردود فِعل سياسية، وربما شعبية، على التطهير الجاري لأنه يشمل النسيج الاجتماعي والعائلي التركي الذي قد تشعر شرائح منه بالإقصاء عن الدولة والسلطة.
فضلاً عمّا بدأت الولايات المتحدة الاميركية والدول الغربية تَتململ منه، لجهة انّ إعادة بناء الجيش التركي وفق الترتيب الاردوغاني، قد لا تريح حلف «الناتو» الذي يشكّل هذا الجيش ركيزة أساسية فيه، ويسود اعتقاد بأنّ إقصاء جماعة غولن وآخرين ممّن اتهموا بالتورّط في الانقلاب الفاشل او تأييد الانقلابيين، قد يدفع الغرب الى اتهام اردوغان بضرب العلمانية التركية وتحويل تركيا نحو حكم الحزب الواحد، بل نحو الحكم الاسلامي الذي يقصي التيارات العلمانية الموجودة في المجتمع التركي.
وبالاضافة الى ذلك النأي بتركيا عن الغرب في اتجاه إقامة أمتَن العلاقات مع روسيا وايران ما سيفسّره الغربيون على انه انتقال تركي من المعسكر الغربي الى «المعسكر الشرقي»، اذا جاز التعبير. ما يعني انّ اردوغان قد يواجه حرباً غربية شديدة عليه قد تستهدف إنهاء نظامه، علماً انه ما يزال يخشى من حصول انقلاب جديد، وقد قال اخيراً انّ «الانقلاب لم ينتهِ بعد».
وتفيد معلومات جديدة عن المحاولة الانقلابية الاخيرة انّ اردوغان تمكّن من الخروج من مقر إقامته في مرمريس قبل نصف ساعة من وصول الانقلابيين اليه لاعتقاله او تصفيته، وذلك بفضل ما تَلقّاه من معلومات، يُقال انّ الروس زَوّدوه إيّاها، اذ كان الانقلابيون يركزون على إحكام السيطرة بداية على اسطنبول وأنقرة، وقد أعلموا قيادات كبيرة وقطاعات في الجيش التركي بذلك، فمنها مَن أيَّد ومنها مَن تَريّث لِتتضِح له الصورة.
ولكن عندما علم المُتريّثون بفشل الانقلابيين في الوصول الى اردوغان، سارعوا الى إبلاغه كل ما لديهم من معلومات عن الانقلاب، فسارع بدوره الى دعوة الأتراك للنزول إلى الشوارع في مواجهة قوى الجيش المنقلبة ما أربَكها وشَلّ حركتها لأنها لم تتلق أوامر بالتصدي للتجَمّعات الشعبية، الأمر الذي ادى الى فشل الانقلابيين في الاستيلاء على المؤسسات المهمة والحساسة في الدولة ما أدى الى فشل الانقلاب.
وفيما اردوغان يمضي في ورشة التطهير داخلياً، فإنه يستعد لانفتاح كبير على موسكو وطهران، ويشكّل لقاؤه المقرر الشهر المقبل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين محطّة مهمة في هذا الاتجاه، فهو مرتاح الى الموقفين الروسي والايراني من الانقلاب، فيما ينظر الى الموقف الاوروبي والغربي عموماً نظرة ارتياب تَرقى الى مستوى الاتهام بتدبير الانقلاب، فيما طهران وموسكو تتبادلان مقاطعة المعطيات حول الحدث التركي المستجِد تمهيداً لتسييل نتائجه التركية في الساحة السورية، فالحصار أطبق كليّاً على حلب.
ولكنّ الحدود التركية ـ السورية ما تزال مفتوحة أمام مسلّحي المعارضة الذين تَوقّف تَدفّق السلاح التركي اليهم، وما يحصلون عليه الآن من هذا السلاح هو بكميات ضئيلة وبواسطة «التشبيح».
والمعلومات حول جديد الموقف التركي من الأزمة السورية تفيد انّ انقرة أسقطت من حسبانها هدف إسقاط الرئيس السوري بشار الاسد، ففي آخر زيارة لرئيس الوزراء التركي السابق احمد داود اوغلو لطهران أبلغ الى المسؤولين الايرانيين انّ إسقاط الاسد لم يعد هدفاً تركياً، وهو ما أكده أخيراً اردوغان نفسه ورئيس وزرائه بن علي يلدريم، ما دلّ الى انّ ما كان داود اوغلو أبلغه الى الجانب الايراني كان منسّقاً مُسبقاً مع الرئيس التركي.
كل هذه المعطيات مؤدّاها الى انّ معركة النظام السوري وحلفائه لاستعادة حلب بكاملها وإقفال الحدود مع تركيا قد اقتربت، بدليل البلاغات التي بدأ يطلقها الجيش السوري ويدعو فيها المسلحين المحاصرين في حلب الى تسليم أسلحتهم.
والسؤال: هل ستكون استعادة حلب بداية الدخول الى الحل السياسي للأزمة السورية الذي يتحدث عنه الاميركيون والروس الباحثون حالياً في ضمّ «جبهة النصرة» الى «داعش» كتنظيم إرهابي؟ تفيد المعلومات انّ الجانبين اقتربا من الاتفاق على هذا الضَمّ ما سيُسرّع الاعمال الحربية للقضاء على هذه التنظيمات، سواء في حلب او في غيرها من المناطق السورية التي ما تزال خاضعة لسيطرة المسلحين.
علماً انّ سقوط حلب في يد النظام وحلفائه سيؤدي الى الانهيار الاستراتيجي لكل جبهات المسلحين في سوريا، وكذلك في مدينة الموصل العراقية التي تستعد قوات الحكومة و»الحشد الشعبي» لاستعادتها من «داعش» وأخواتها.