أما وقد انتهت مسيرة ألف ميل الموازنة، فبات منتظراً أن تهدأ هذه «الحُميا» ويأخذ القوم استراحة إن لم يكن من أجل هذا الشعب المسكين، الذي أرهقوه طوال ثلاثة أشهر، فعلى الأقل من أجل أنفسهم، فينفّسون عن أحقادهم وما يعتمل في صدورهم من غيظ، ويرتاحون ويريحون.
ولقد قيل الكثير في هذه الموازنة منذ أن كانت مشروعاً الى أن أصبحت قانوناً، وسيُقال الأكثر في طالع الأيام. ويكفي الموازنة، هذه، أنها ألهبت المشاعر وحرّكت الشارع ودفعت بفئات وهيئات الى التظاهر والاعتصام بما يتجاوز كل منطق وعقل.
وبقدر ما نود أن نهنئ المعارضين (وهم قلّة قليلة) في مجلس النواب الذين عارضوا الموازنة، فإننا نود أن نسّجل عيباً ديموقراطياً كبيراً تمثل في تصويت نواب كتل نيابية موالية (ممثلة في الحكومة) ضدّ الموازنة. وكنا قد أثرنا هذه النقطة، مراراً وتكراراً، قبل التصويت. وحذرنا من الوقوع في هكذا سقطة تتعارض مع أبسط مبادئ الديموقراطية البرلمانية وقواعدها.
وليأذن لنا دولة الرئيس نبيه بري أن نقول له إننا نتفهم كلامه عن أن وجود وزير أو وزراء من إحدى الكتل في الحكومة لا يمنع حرية نائب أو نواب في الكتلة من اتخاذ الموقف الذي يراه أو يرونه مناسباً من الحكومة أو من مشاريعها. فهذا الكلام صحيح من حيث المبدأ، ولكنه من حيث روح القانون لا تستطيع (ولا يجوز) أن تعارض كتلة نيابية ذاتها بمعارضة نوابها الحكومة التي تتمثل فيها حتى ولو كان وزراؤها عارضوا مشروعاً أو تحفظوا عنه.
إن الموازنة العامة ليست مجرد مشروع عادي، ولا هي قانون عادي… إنما هي الترجمة العملانية (القانونية بالطبع) لسياسة الحكومة في المجالات كافة… فكيف تقبل كتلة نيابية على نفسها أن تعارض السياسة الشاملة العامة للحكومة وتكون ممثلة فيها.
والأكثر دقة: كيف يقبل فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس الحكومة مثل هذه «السابقة» غير المعقولة ولا المفهومة؟!
لقد استنفدنا الموضوع في هذه الزاوية وتحدثنا فيه غير مرة. خصوصاً أنه يضرب مبدأ قانونياً مهماً هو الانسجام الوزاري. وفي منأى عمن أيد وعمن عارض مشروع الموازنة من الكتل الممثلة في الحكومة، فإننا ننظر الى «القضية» من منطلق مبدئي أساسي جداً غير قابل في تقديرنا للاجتهاد. وإلا لماذا «اخترعوا» في الأنظمة الديموقراطية أمراً رائعاً جداً اسمه الاستقالة، وفي موازاته أمر أشد روعة اسمه «الإقالة»!
نعرف أن هذا الكلام لن يرضي كثيرين، ولكننا نعرف أنهم يعرفون أننا على صواب في ما نقول…
وفي تقديرنا، أخيراً، أننا استنفدنا هذا الموضوع… ومن له أذنان سامعتان فليسمع!