IMLebanon

الخطأ الذي فتح أبواب التسوية

 

يكشف كتاب جديد عن محادثات كمب دافيد 1978 التي أسفرت عن معاهدة السلام بين مصر واسرائيل عن السر الذي فتح الباب الى تلك المحادثات التاريخية. والسر كان مجرد معلومة خاطئة !!

في الأساس جرت المباحثات بين ثلاثة رجال كان كل واحد منهم يعتبر نفسه مكلفاً بمهمة من الله. والثلاثة هم :

مناحيم بيغن رئيس حكومة اسرائيل في ذلك الوقت، وكان يؤمن بأنه مكلف من الله باستعادة الأرض التي وعد الله بها بني اسرائيل (؟). وأنور السادات رئيس الجمهورية المصرية، وكان يعتقد انه مكلف من الله بترجمة الايمان الاسلامي بالمسيحية واليهودية رسالتين من عند الله، حتى انه كان يزمع اقامة مبنى في طور سيناء يضم ثلاثة أجنحة: مسجد اسلامي وكنيسة مسيحية وكنيس يهودي. أما ثالثهم فكان الرئيس الأميركي جيمي كارتر وهو من اركان الحركة الانجيلية في جنوب الولايات المتحدة، وكان يعتقد انه مكلف من الله بصناعة السلام في الشرق الأوسط.

قادت هؤلاء «المؤمنين» الثلاثة الى كمب دافيد معلومة «مهمة« حملها الدكتور حسن التهامي أمين عام منظمة المؤتمر الاسلامي الأسبق، الى الرئيس أنور السادات.

كان التهامي شخصية غريبة، يدّعي انه من أصحاب الرؤيا، وانه يتحدث الى الملائكة. وكان يدعي أيضاَ انه قادر على أن يوقف بإرادته الذاتية حركة قلبه. وكان الرئيس السادات يعتمده للتنبؤ بمستقبله.. وبمستقبل مبادراته. ولقد ذهب مرة الى الملك الحسن الثاني ملك المغرب ليروي له مناماً قال فيه ان الملائكة جاءته في منامه لتهنئته بزواجه من سيدة مغربية معينة. فطلب من الملك ان يزوجه اياها، وهكذا كان !!

كان لا بد من الاشارة الى خلفية الرجل قبل الاشارة الى المعلومة التي فتحت الطريق أمام الرئيس السادات لزيارة القدس أولاً.. ومن ثم للتوجه الى كمب دافيد في الولايات المتحدة حيث عقد الاتفاق مع رئيس حكومة اسرائيل بيغن ومع الرئيس الأميركي كارتر.

تقول هذه المعلومة ان الاسرائيليين وافقوا على الانسحاب من كل الاراضي العربية المحتلة حتى حدود عام 1967. وان الاعلان عن هذه الموافقة يحتاج الى مبادرة عربية لا يستطيع ان يقوم بها احد سوى الرئيس السادات. فكانت الزيارة للقدس المحتلة. الا ان المباحثات التي جرت بعد ذلك في كمب دافيد أثبتت ان الاسرائيليين كانوا ولا يزالون حتى اليوم – أبعد ما يكونون عن فكرة الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، ومن مرتفعات الجولان، وحتى من مرتفعات شبعا وكفرشوبا في جنوب لبنان. فمن أين جاء التهامي بهذه المعلومة؟ ومن أوحى له بها. وكيف؟.. 

للإجابة عن هذه التساؤلات لا بد من العودة قليلاً الى الوراء.

خلال توليه الامانة العامة للمنظمة الاسلامية، عقدت قمة لرؤساء الدول الاسلامية في مدينة لاهور في باكستان. كان ذلك في عام 1974. يومها طلب بطريرك الكنيسة الارثوذكسية الياس الرابع، وكان عضواً في الوفد اللبناني برئاسة رئيس الحكومة اللبنانية تقي الدين الصلح، وكنت شخصياً عضواً في الوفد، السماح له بإلقاء خطاب أمام القمة باعتبار ان القدس مدينة مقدسة مسيحياً أيضاً. غير ان الدكتور التهامي رفض الاستجابة لطلب البطريرك بحجة ان المؤتمر اسلامي وانه لا يعقل ان يعتلي منبره رجل دين مسيحي. وبرر التهامي موقفه بأنه اذا قررت المنظمة اعطاء منبرها للمؤيدين فليس من الحكمة في شيء ان يقتصر الأمر على شخصية كهنوتية مسيحية فقط، بل يجب استقبال مؤيدين من مختلف انحاء العالم ومن مختلف الأديان والعقائد. وقد رد البطريرك على ذلك بقوله :» أنا لست مؤيداً للمسلمين في قضية القدس. أنا اعتبر القمة الاسلامية مؤيدة لي في قضية القدس». لم يتراجع الدكتور التهامي عن موقفه الا بضغط من المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز يرحمه الله- الذي كان يترأس وفد المملكة العربية السعودية الى المؤتمر. منذ ذلك الوقت اصبح تقليداً دعوة بطريرك الكنيسة الارثوذكسية العربية الى كل قمة اسلامية لالقاء كلمة في جلستها الافتتاحية العامة .

وبعد مرور وقت قصير على قمة لاهور، توفي البطريرك الياس الرابع في ظروف غامضة؟- وتولى التهامي مسؤولية ترتيب زيارة الرئيس السادات الى القدس المحتلة بصفته مبعوثاً خاصاً للرئيس السادات .

اما من اين جاء التهامي يرحمه الله – بالمعلومات عن استعداد اسرائيل للانسحاب من جميع الاراضي المحتلة، فلا يزال لغزاً. المهم ان هذه المعلومة الخاطئة هي التي فتحت الباب أمام زيارة السادات التاريخية، ومن ثم أمام مباحثات كمب دافيد التي كان التهامي عضواً في الوفد المصري المفاوض !

فبعد ان انتهت مهمة الدكتور حسن التهامي أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الاسلامي ( اصبح اسم المنظمة الآن هو منظمة التعاون الاسلامي) اعتمده الرئيس السادات مبعوثاً شخصياً له الى اسرائيل لترتيب زيارته التاريخية للقدس. وعيّنه نائباً لرئيس الحكومة المصرية.

في الكتاب الجديد للمؤرخ الأميركي لورانس رايت وعنوانه : ثلاثة عشر يوما من سبتمبر: كارتر، بيغن والسادات في كمب دافيد Thirteen Days in September : Carter, Begin and Sadat at Camp David، يقدم رايت صورة عن حسن التهامي تبين كم كان الرجل غريب الأطوار. حتى ان الكاتب يقول ما ترجمته بالحرف ان التهامي «كان يدّعي انه يتحدث الى الأنبياء والقديسين». وانه كان يتنبأ بالمستقبل للرئيس السادات.. وان السادات كان يصدق ما يقوله.

في هذا الكتاب الموثق، يؤكد المؤلف ان القضية الفلسطينية كانت مغيبة عن المباحثات. وان بيغن لم يكن يعترف ان هناك شعباً فلسطينياً. بل انه لم يكن يؤمن بوجود هذا الشعب. وهو الشعور نفسه الذي عبّرت عنه غولدا مائير رئيسة الحكومة الاسرائيلية قبل بيغن. فعندما سئلت: «وماذا عن حقوق الفلسطينيين؟ أجابت: لا أعرف ان هناك فلسطينيين«.

غير ان رئيس الحكومة الحالي نتنياهو بات يعرفهم جيداً اليوم في غزة، خصوصا بعد عدوان 2008 وعدوان 2014. وقد تعرف عليهم جيداً ايضاً سلفه الجنرال شارون عندما اضطر للانسحاب من غزة.

غير انه من الانصاف للدكتور التهامي الاقرار بأمر أساس وهو ان اسرائيل انسحبت فعلاً من جميع الاراضي المصرية المحتلة في عام 1967، ولكن ليس من جميع الاراضي العربية كما جاء في «معلومته«. الأمر الذي حمل المؤرخ الاميركي لورنس رايت ان يقول في كتابه ما ترجمته حرفياً : « لقد بات من المعقول جداً الادعاء بأن عملية السلام في الشرق الأوسط أطلقها سوء فهم انسان مجنون Mad Man».

لقد فشل حتى الآن كل «العاملين» في اطلاق العملية السلمية في الشرق الأوسط. وكان آخرهم الرئيس الأميركي نفسه باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري.. وقبلهما العديد من المبعوثين والدبلوماسيين الأميركيين على أعلى مستوى، ولكن دون جدوى. فهل يعود فشل كل هؤلاء في تحقيق «معجزة» التسوية السياسية الى عدم توفر معلومة خاطئة.. أو عدم وجود مبعوث عربي يوحي له بها، ويوحي هو بها على شاكلة المرحوم حسن التهامي؟