يَطرح استمرار التصعيد السياسي المتبادل بين فريقَي 8 و14 آذار أسئلةً كثيرة حول مصير الاستحقاق الرئاسي وكذلك حول جدوى الحوارَين: الحوار بين حزب الله وتيار « المستقبل»، والحوار بين قادة الكتل النيابية. وهذان الحواران أُريدَ منهما أن يوصِلا إلى توافق على انتخاب رئيس جمهورية جديد يكون تتويجاً لوفاق وطني يُفترض أن يحقّقاه، ولكنّ أيّاً منهما لم يتقدّم كثيراً في الشأن الرئاسي، إلّا أنّهما لا يزالان واعدَين.
ويلاحِظ سياسيون أنّه ما إنْ تسنَح سانحةٌ، أو يلوح في الأفق المحلي والإقليمي والدولي بصيصُ أمل في إمكان إمرار الاستحقاق الرئاسي، حتى تتحرّك القوى السياسية المتنازعة في مواقف وتصرّفات تقضي على هذا الأمل في مهدِه، فيطول الشغور الرئاسي ويَطول… وفي هذا السياق تغدو المبادرات من هنا وهناك أشبَه بعملية «مضيَعة للوقت»، أو في أفضل الحالات، إمراراً لفترة الوقت الضائع التي يمرّ بها لبنان والمنطقة، قد لا تنتهي إلّا عند توافر الحلول المطلوبة للأزمات الإقليمية، ولكنّ في الأفق ما يشير حتى الآن إلى أنّ هذه الحلول ما تزال متأخّرة، بل بعيدة.
«البكاء عند رأس الميت لا يفيد»، والميت هنا هو «المواقيت المفيدة» الكثيرة التي انقضَت وولّى زمانها بعدما كان في الإمكان اقتناصها والاتفاق خلالها على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فالأفرقاء السياسيون أضاعوها، عمداً أو بغير عمد، بسبب التسابق، كلٌّ على طريقته، الى النفاذ بمرشّحه، وتالياً مشروعه السياسي، فكان أن طالَ الشغور الرئاسي ولا يزال وبقيَت البلاد تتقلّب في مواجع التعطيل والفراغ، ما يهدّدها بالشلل وسط تلال النفايات وروائحها التي تصَدّر الأوبئة والجراثيم في كلّ حين وتهَدّد الصحّة العامة.
ويرى فريق من السياسيين أنّ المبادرات هي في أحسن الحالات حتى الآن بمثابة «تجريب حظ»، ولو كان الأمر غيرَ ذلك لكانت إحداها نفذت وانتخِب رئيس جديد، فهذه المبادرات، إلى افتقادها التأييدَ الداخلي الجامع، تَفتقر إلى التأييد الاقليمي والدولي، فكيف لها أن تنجح إذا كان المبادرون إليها يتوخّون منها خدمةً لهذه الجهة الخارجية أو تلك، في سياق الحرب الضروس المفتوحة على مجمل ساحات المنطقة، التي تشابَكت الأزمات التي تعيشها بعضُها مع بعض وباتت معالجتها مرهونة بتوصّل أطرافها الداخليين والخارجيين إلى حلّ شامل، ما يَمنع نجاح أيّ حلّ جزئي لهذه الأزمة أو تلك، ولو كان الأمر غيرَ ذلك لكان المعنيون أفرَجوا عن حلّ للأزمة اللبنانية يكون منطلقُه انتخابَ رئيس الجمهورية.
ويرى هؤلاء السياسيون أنّه كان في إمكان الرئيس سعد الحريري أن يستفيد من عودته إلى بيروت بجعلها مناسبةً لانطلاقٍ إلى حلّ للأزمة، بحيث يَبني مع الآخرين على الإيجابيات الموجودة لتحقيق هذا الحل، بدلاً مِن الاستمرار في التصعيد، فحضورُه في الساحة مباشرةً مِن شأنه أن يحدِث بلا شكّ حيوية ويطلقَ ديناميات ويغيّرَ في السياق العام للأحداث في الاتّجاه الذي يساعد على انفراج الأزمة، ولكنّه إذا لم يستثمر هذه الأمور إيجاباً وإذا استمرّ في التصعيد فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى تكريس معادلة سلبية تبرّر الفراغ الطويل.
ويَعتقد هذا الفريق من السياسيين أنّ استمرار التصعيد المتبادل سيكرّس لبنان رهينةً في يد القوى الإقليمية المتنازعة على ساحة المنطقة ويُبقي أزمة لبنان في ثلّاجة الانتظار أكثر فأكثر. ذلك أنّ خطاب الحريري في «البيال» حملَ علناً، وكذلك في بعض مطاويه، إرادةَ تصعيد تتجاوَز البُعد المحلّي وإيماءاته، ليرتبط عميقاً في ما يَجري في المنطقة، إذ إنّه تناولَ دور «حزب الله» الإقليمي في الوقت الذي سيُحيي الحزب اليوم مناسبةَ «الوفاء للقادة الشهداء» وهي مناسبة ذات طبيعة استراتيجية سيتجاوز الأمين العام للحزب فيها الشأنَ الداخلي والمبادرات والاستحقاقات إلى الحديث عن واقع المنطقة ومستقبلها في ظلّ الحروب المستعِرة فيها.
ويَعتقد هؤلاء السياسيون أنّ على الحريري أن يبنيَ على ما بادرَه به السيّد نصرالله من إيجابيات في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، بدلاً من الاستمرار في لغة التصعيد، لأنّ هذه اللغة، وإنْ كان البعض يرى فيها وسيلةً «لشدّ العصب»، إذا استمرّت ستبقى المعوق الداخلي الأساسيّ لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، علماً أنّ بعضاً من خطاب «البيال» لامسَ أو تلاقى مباشرةً أو مداورةً مع ما كان ذهبَ إليه السيّد نصرالله من تمسّك باتّفاق الطائف وابتعادٍ عمّا سُمّي المؤتمر التأسيسي، وكذلك تخلّى عن طرح السلّة الشاملة للحلول.