ما بين التفاهم على البنود التي تشكّل إطاراً للاتفاق، والتوقيع على الاتّفاق الكامل والنهائي في نهاية شهر حزيران المقبل، ثلاثة أشهر قاسية وصعبة ومرشّحة لأن تُمَدّد حتى نهاية الصيف المقبل.
لا حاجة للتأكيد مرّةً جديدة أنّ إطار الاتّفاق هو بمثابة انتهاء أعمال بناء المنزل، وأمّا البنود التفصيلية التي مِن المفترض إقرارها في نهاية شهر حزيران، فهي بمثابة الأثاث الداخلي وأعمال الديكور لهذا المنزل، ما يعني أن لا مكانَ للشيطان في هذه التفاصيل المنتظَرة.
في كلّ الأحوال فإنّ الأشهرَ الماضية شهدَت ضغوطاً طائلة على المجموعات المفاوِضة. صحيح أنّ الاتّفاقات حولَ المسائل التقنية كانت قد اجتازت معظم المسافة المطلوبة، إلّا أنّ عاملين أساسيّين شَكّلا هاجساً دائماً:
الأوّل محاولة استثمار طهران لأكبر مدّة ممكنة في الوقت المسموح قبل الشروع في التوقيع، بغية التلاعب بمفاوضيها وانتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب. ولذلك كانت قد قرّرَت التمسّك بشرط إزالة كلّ العقوبات دفعةً واحدة، رغم إدراكها بمحدودية قدرات البيت الأبيض في هذا الإطار بوجود كونغرس معادٍ له، وبالتالي تأجيل التفاهم حتى حزيران. لكنّ المفاجأة الصاعقة التي أفضَت إليها الانتخابات الإسرائيلية رفعَت من درجة المخاطر الجدّية في حال إطالة أمَد التوقيع وجعَلت طهران تفضّل إنهاءَ الموضوع الآن.
والثاني، ويتعلق بالصعود الثابت والقوي للحزب الجمهوري الأميركي وسطوع نجم راديكاليّيه لوصول البيت الأبيض بعد حوالي نصف السنة. وهو ما دفعَ بالمفاوض الإيراني إلى استعادة بعض البنود وتحصينها جيّداً كي تصبحَ محصّنة من أيّ تغيير قد يطرَأ على سياسة ساكن البيت الأبيض.
وما بين هذين العاملين استمرّ السعي الإسرائيلي للخربَطة. ونشَأت تطوّرات حربية في اليمن بسبَب خطأ في التقدير لدى الحوثيّين، واستمرّت باريس في حركتها المشاكسة داخل مجموعة الدوَل السِتّ بهدف تأخير الاتفاق، وذلك انطلاقاً من العلاقات الخاصة التي باتت تربطها بالسعودية، وفي الوقت نفسِه لنَيلِ حصّةٍ أكبر من الاستثمارات المتوقّعة في إيران.
لكنّ الأهمّ والأخطر هو تلك المرحلة التي ستلي التفاهم حول إطار الاتفاق، والتي يمكن القول إنّها بدأت فعلاً. فمع نهاية حزيران تكون طهران ومعها واشنطن قد وضعَتا جانباً اتّفاقاً شغلَ العالم منذ 11 عاماً. وكان النقطة المركزية للحركة السياسية في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة.
ما يعني أنّ بداية شهر تمّوز ستشهَد فتح ملفّات الشرق الأوسط الشائكة وإنجاز تسويات للساحات التي تشهد حروباً طاحنة على خلفية النفوذ بين إيران والسعودية. هذه الحروب التي وصلت إلى مراحل خطرة على خلفية عناوينها التي تتمحوَر حول نزاع مذهبيّ ملتهِب. وبعيداً من الأوهام، فإنّ الاتفاق الأميركي – الإيراني حول النووي وبكافة ملحقاته العلنية والسرّية، لا بدّ أن يرخيَ بثقلِه على التسويات المنتظَرة.
وهكذا، وفيما سعَت إيران للإمساك بأكبر قدر من الأوراق إبّان خوضِها غمارَ المفاوضات الصعبة مع واشنطن، باشرَت السعودية اتّخاذ وضعية الهجوم لانتزاع أكبر قدر من المكاسب الميدانية كي تؤمّن لنفسِها مقعداً مريحاً على طاولة المفاوضات مع إيران الصيف المقبل. وكان لافتاً ما أعلنَته طهران على لسان نائب وزير الخارجية بدعوة السعودية إلى وقف الأعمال العسكرية في اليمن والبَدء بالتفاوض، وأنّ بلاده تحاول التواصل مع الرياض لهذه الغاية.
في اليمن لا يبدو أنّ هنالك فرصةً لتدخّلٍ برّي، خصوصاً وأنّ واشنطن عارضَت الخطوة كي لا يفتحَ ذلك بابَ التدخّلات المباشرة في مناطق أخرى مِن قبَل ايران، وأيضاً كي لا يجري فتح الأبواب أمام تغلغُلٍ للقاعدة في الأجسام العسكرية العربية.
لذلك باشرَت السعودية خطّةً تقضي باستمالة بعض الضبّاط في التركيبة العسكرية للجيش اليمني الذين يدينون بالولاء لعلي عبدالله صالح، إضافةً إلى استمالة العديد من القبائل بالمال والسلاح، في ظلّ تصاعد فترة المواجهة السنّية – الشيعية. وقد وضعَت السعودية لنفسها مهلة شهرين كحَدّ أقصى لتحقيق أهدافها في اليمن.
وفي العراق اندفاعةٌ أكبر باتّجاه العشائر السنّية والتي تقوم على أساس المطالبة بحكم ذاتيّ بعد إنجاز مرحلة طرد داعش. وفي سوريا استخدام كافّة الأوراق بما فيها الورقة الفلسطينية، للتعديل في موازين القوى على الأرض، في مقابل استعدادات حربية للجيش النظامي مدعوماً من حزب الله والمجموعات الشيعية التي قدِمت للقتال إلى جانبه. ساحات ملتهبة لن تكون الساحة اللبنانية استثناءً لها ولو بطريقة مختلفة.
صحيح أنّ الحكومة اللبنانية اجتازت أزمة الموقف الذي أعلنَه الرئيس تمّام سلام في شرم الشيخ، ولكن هذا لا يعني أنّ الاستقرار الحكومي طويل الأمد، فملفّ التعيينات الأمنية سيشكّل المدخَل لتجميد مشاركة التيار الوطني الحر، وسيلاقيه في ذلك حزب الله.
لكنّ ذلك سيتزامن مع تصاعد المواجهة في المنطقة وعلى أساس أنّ الحكومة تشكّل نقطة قوّة لصالح تيار المستقبل المتحالف مع السعودية.
وقد لا تقفُ المواجهة في لبنان عند حدود النزاع الحكومي. فالعواصم الغربية لديها ما يكفي من المعطيات حول أعمال إرهابية ستَطال الداخل اللبناني. والهدف سَعيٌ لشَطبِ رموزٍ بغية إحداث تعديلٍ في موازين القوى طالما إنّ الأعمال العسكرية غير مسموحة في لبنان.
وقد باشرَت الأجهزة الأمنية، إضافةً إلى الجيش اللبناني، عمليات دهمٍ مسبَقة بهدف فكفكة كلّ أنواع الشبكات النائمة وقدر المستطاع، لكنّ حصرَ الإرهاب لن يقف على التنظيمات المتطرّفة فقط، بل إنّ هنالك جهاتٍ أخرى ستتلطّى وراء التنظيمات المتطرّفة لتنفذ عمليات تصبّ في خانة مصالحها السياسية وترتيب الساحة على قياسها قبل الوصول إلى مرحلة المفاوضات والتسويات الصيفَ المقبل.