Site icon IMLebanon

تصعيد بوتين: هروب إلى الأمام بمواجهة استراتيجية الاستنزاف الأميركي

محور روسيا – إيران والأذرع الشيعية يضغط في الوقت الضائع لتحقيق مكاسب في الميدان السوري

تصعيد بوتين: هروب إلى الأمام بمواجهة استراتيجية الاستنزاف الأميركي

تلويح بتعديل قواعد اللعبة عشية اجتماع لوزان وموسكو تستبعد ذهاب واشنطن إلى الصدام المباشر

هي لعبة الوقت الضائع.  يضغط محور روسيا – إيران وأذرعها العسكرية من الميليشيات الشيعية – النظام السوري عسكرياً بشتى أنواع الأسلحة من أجل تحقيق مكاسب في الميدان السوري. موسكو تبالغ في الإفادة من الضوء الأخضر الأميركي المُعطى لها، فتستخدم القوة المفرطة بضرباتها الجوية وصواريخها الارتجاجية والقنابل الفوسفورية والفراغية والأسحلة المُحرّمة دولياً في حلب إلى حدود استفزاز المجتمع الدولي، واعتبار الغرب أن ما يجري في حلب قد يرقى إلى جرائم حرب.

يذهب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تصعيده خارج بلاده مُتكئاً على النزعة القومية لدى شعبه، في ما يعتبره المحللون بالشأن الروسي هروباً من المأزق السياسي والاقتصادي الذي يواجهه في الداخل. يرفع من منسوب الخطر الخارجي ضد الاتحاد الروسي، طالباً من شعبه التهيّؤ لحرب عالمية ثالثة عبر تعاميم لعودة الروس في أوروبا إلى ديارهم وتحضير الملاجئ تحوطاً لحرب نووية. إجراءات يُدرجها المحللون في إطار التهويل لشدّ العصب الداخلي والتوحّد أمام المخاطر الخارجية التي تتقدّم في الأولوية على أي مطالب أخرى. هي وصفة الأنظمة الشمولية في الغالب، وملاذ لـ «القيصر» الذي يُستنزف في أوكرانيا - حديقته الخلفية - ويطوّقه حلف الناتو من بوابة دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي قبل انهياره.

يَبني بوتين حساباته في تعزيز أوراقه تحضيراً للتعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة، على عجز سيّد «البيت الأبيض» باراك أوباما في أسابيع حكمه الأخيرة، وإدراكه أن مجيء «الديموقراطية» هيلاري كلينتون سيُصعّب عليه الأمور. فبوصلتها روسيا، وسياستها حيال الشرق الأوسط، ولا سيما الأزمة السورية، تحمل تغييراً جلياً عبّرت عنه في مناظرتها الرئاسية الثانية بالحديث عن منطقة الحظر الجوي. ولكن، رغم وَهن أوباما، فإن اتفاق لافروف – كيري حول سوريا لم يستطع أن يشق طريقه. سقط في مصفاة البنتاغون، وارتفعت وتيرة التهديدات الأميركية رداً على محاولات الضغط الروسية علها تستطيع أن تُعيد الروح إليه.

ليس أمراً عادياً أن تدعو الخارجية الروسية مَن أسمتهم «شركاءها» في المنطقة لعدم تزويد المعارضة السورية بأسلحة مضادة للطائرات. إنه اليقين بأن الغطاء الأميركي وحده هو الذي يُؤمّن سماء سوريا لتكون مرتعاً لجحيم طائراتها وجهنمها وإجرامها ضد المناطق السورية الخارجة من سيطرة النظام. وليس تهديد بوتين من أن أعمالاً عدائية ضد روسيا في سوريا لن تمرّ من دون عقاب، سوى استشعار بأن «مظلة الحماية» الأميركية – الأوروبية ربما أصيبت ببعض الثقوب. فمن شأن استهداف الوجود الروسي أن يحمل تداعياته على الجمهور الروسي الذي يدغدغ «القيصر» مشاعره بـ «نوستالجيا» القوة العظمى وزمن القطبين. ولم تكن تلك المواقف الروسية لتظهر لولا إدراك موسكو أن تبدلاً في المزاج الدولي حيالها  بدأ بالظهور بقوّة.

فروسيا بدت منعزلة في مجلس الأمن، حين طرحت مشروع قرارها المضاد للمشروع الفرنسي – الإسباني حول حلب، الذي لم يحظ سوى بأربعة أصوات، بما فيها صوتها، من أصل خمسة عشر صوتاً. فرنسا تعبّر عن غضبها من الصَلف الروسي بإلغاء لقاء رئيسها فرنسوا هولاند مع بوتين، وبريطانيا - على لسان وزير خارجية بوريس جونسون - ترى أن استمرار روسيا بما تفعله في حلب يحوّلها إلى دولة مارقة، وتدعو البريطانيين إلى تظاهرات أمام السفارة الروسية في لندن، فيما تسعى هاتان الدولتان إلى فرض عقوبات جديدة على روسيا والنظام السوري.

لكن الأهم بالنسبة للمراقبين للشأن الروسي، هو التلويح بإمكان تعديل قواعد اللعبة عسكرياً. فعشيّة الاجتماع الذي أعلن وزير الخارجية الروسي أنه سيُعقد  السبت في لوزان حول سوريا، كان المسؤولون الأميركيون يُعلنون عن اجتماعات متوقعة لأوباما مع مستشاريه لبحث خيارات عسكرية وخيارات أخرى، في رد على استمرار القصف الجوي السوري والروسي لحلب. ورغم أن موسكو تدرك أن واشنطن ليست في وارد الذهاب بالتصعيد العسكري إلى حد الاصطدام المباشر، وأن خياراتها الراهنة  قد لا تصل إلى حدّ شنّ ضربات جوّية على قواعد عسكرية أو مخازن أسلحة أو قواعد مضادة للطائرات أو مواقع للرادار تابعة للنظام السوري، لكن سماح أوباما لحلفائه بتزويد معارضِين موثوق بهم بأسلحة متطورة، يُشكّل جرس إندار لضرورة أن تتراجع عن فرض معطيات جديدة في الميدان السوري تشكل تجاوزاً للخطوط الحمر في حلب، وأن عدم تراجعها سيدفع إلى الخطوة التالية بتزويد المعارضة بالصواريخ المضادة للطائرات، إذ أن تقارير تتحدث  عن مواقف لمسؤولين أميركيين كبار بوجوب التحرّك، ولو بالحد الأدنى، بعدما باتوا يستشعرون مخاطر فقدان ثقة حلفائهم في المنطقة، سواء الحلفاء الخليجيون أو تركيا وحتى الأكراد، نتيجة سياسة أوباما حيال المنطقة، ولا سيما سوريا والعراق، وإمكان انعكاس ذلك مزيداً من السلبية ليس فقط على علاقات واشنطن بحلفائها، بل على حربها المُعلنة على الإرهاب.

وفي رأي هؤلاء المراقبين أن بوتين أضحى، بعد إيران، أسير تورطه في الوحول السورية، والتي باتت تتطلب منه زيادة قواته وترسانته العسكرية فيها، بعدما سقط في فخ استدراجه في عملية استنزاف متواصلة تضاف إلى استنزافه الحاصل في أوكرانيا، فضلاً عن أن السياسة الروسية، المغالية في استفزاز مشاعر المسلمين السنّة، من شأنها أن تزيد من تأليب مسلمي روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق، ورفع منسوب العداء والكراهية لديهم تجاه الروس، الأمر الذي سيرتد على الداخل الروسي وعلى مستقبل الاتحاد نفسه، ذلك أن استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية، كانت ولا تزال، تتمثل بإنهاك روسيا وفرط  اتحادها، وهي استراتيجية ليس قائمة بالضرورة على الحرب، بل على الاستنزاف وتهيئة الأرضية الخصبة لصراعات عرقية وأثنية داخلية، وعلى العقوبات الاقتصادية.

أما رهان موسكو على اتفاقها مع تركيا بشأن مدّ أنابيب الغاز الروسي عبر أراضيها إلى أوروبا، لإخراجها من الطوق الأوكراني  وضمان المنافسة على السوق الأوروبية، فإنه رهان يواجه الكثير من التحدّيات، كونه يبقى محكوماً  بجدواه الاقتصادية، ذلك أن دولاً عدة قادرة على منافسة روسيا في هذا المجال. فإلى منافسة الغاز القطري الذي تنقله سفن عملاقة  إلى مرفأ وارسو البولوني فأوروبا، جاء أول الغيث حيال تركيا من إسرائيل، التي زار وزير طاقتها الخميس الماضي اسطنبول للمرة الأولى بعد إعادة تطبيع العلاقات بينهما للبحث بإمكانية مدّ خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من إسرائيل  إلى تركيا وأوروبا، فيما  التحدّي الآخر يتمثل بمصير مشروع استثمار أنبوب الغاز الممتد من إيران عبر العراق فسوريا وصولاً إلى شواطئ لبنان ومنه إلى أوروبا، وانعكاساته على مستقبل العلاقات الروسية – الإيرانية وتضارب مصالحهما!