التصريح الأخير للمبعوث الأممي الخاص٬ ستيفان دي ميستورا٬ بتحميل نظام بشار الأسد مسؤولية تعطيل المفاوضات٬ لا يرتقي إلى مستوى الجرائم والأحداث الخطيرة في سوريا التي ازدادت هذه الأيام. وما نسمعه منه أقل مما هو متوقع من الأمم المتحدة ومبعوثها٬ ومن الحكومات الكبرى٬ وكذلك الحكومات العربية المعنية حيال ما يحدث من تطهير طائفي متعمد٬ وتغيير ديموغرافي صريح٬ وعمليات قتل وتشريد تستهدف مئات الآلاف من المدنيين في مناطق مكتظة سكانًيا.
تصريحه أيًضا لن يلطف من هول الصدمة حول محاولة الإبقاء على الأسد إلى أكثر من عامين مقبلين٬ وتوقيت الحل السياسي تفاوضًيا٬ ليتلاءم مع مسرحية نهاية فترة رئاسة الأسد في ربيع 2018. فافتراض بقاء الأسد حاكًما يلغي الحاجة إلى التفاوض. الأسد٬ شخص يفترض أن يحاكم بتهمة ارتكاب جرائم حرب من أبشع ما عرفناه في التاريخ الحديث٬ لا أن يكافأ بالإبقاء عليه تحت علم الأمم المتحدة!
سلسلة وعود كاذبة انخرط فيها الوسطاء منذ البداية٬ ففي عام 2013 قيل للسوريين انتظروا عاًما حتى موعد نهاية الأسد حتى يكمل فترة رئاسته٬ ويكون التغيير دستورًيا من أجل حفظ ماء وجه الأسد. وعندما جاء الموعد أجرى الأسد انتخابات مزورة٬ ونصب نفسه رئيًسا من جديد٬ واستمر في القتل والتشريد. الآن٬ مشروع المفاوضات يجعل الأسد يستمر حتى ربيع عام ٬2018 أي يتم توقيتها لتستمر إلى موعد الانتخابات.
طبًعا٬ لا أحد يتذكر تلك الكذبة الأولى الآن٬ لأن الأكاذيب صارت كثيرة. مثلاً قيل للمعارضة٬ اقبلوا بمفهوم «المحافظة على النظام» حتى يمكن تبني مشروع إقصاء الأسد٬ وبذلك نتجنب انهيار ما تبقى من الدولة٬ وحتى لا تتكرر غلطة الأميركيين في العراق الذين اعتقلوا كل القيادات وسرحوا كل الجيش والأمن.
المعارضة قبلت بالعرض٬ وأعلنت استعدادها للمشاركة في حكومة مع عدوها النظام٬ لكن من دون الأسد.
ثم قيل لها لا بد أن تتواصلوا وتتفاوضوا مع الروس٬ لأنهم طرف فاعل٬ ومن خلالهم يمكن الانتقال إلى مرحلة تفاوضية تنهي الأزمة. المعارضة ذهبت إلى موسكو ولم يسمعوا هناك سوى التهديدات. وكان تعليق أحد المشاركين٬ ماذا بقي في سوريا حتى نخشى عليه من التهديد؟
وعندما أعلنت الحكومة الأميركية مشروعها محاربة تنظيم داعش٬ طالبت المعارضة بمشاركتها في قتال التنظيم باعتباره شرًطا للتعاون معها عسكرًيا وسياسًيا٬ قبلت المعارضة. الأميركيون هادنوا التدخل العسكري الروسي وحربهم في الجو والإيراني على الأرض ضد المعارضة المعتدلة. كان ما يقلق الحلفين المتنافسين هو كيفية تنظيم العمليات العسكرية في سماء سوريا حتى لا تقع حوادث بينهما. كل ما حصل عليه السوريون من العمليات ضد «داعش» هجوم الروس على المناطق المدنية٬ وزيادة في الإغاثة الغربية من البطانيات والأغذية للاجئين.
سلسلة الوعود الكاذبة واللامبالاة هذه ستنجح في تحقيق أمرين خطيرين٬ الأول زيادة المأساة الإنسانية بمضاعفاتها المتعددة٬ والثاني انتشار الإرهاب الذي ينمو سريًعا نتيجة الفراغ والفوضى والغضب.
ويخطئ السياسيون عندما يتعاطون مع الأزمة السورية على أنها مجرد قضية متفرعة من تشابكات العلاقات المتوترة في منطقة الشرق الأوسط. الحرب في سوريا في الأصل قضية قائمة بذاتها وليست جزًءا من الصراع العربي الإيراني٬ أو السني الشيعي٬ أو الروسي الأميركي. وهذا لا ينفي أن سوريا أصبحت ساحة لصراعات متعددة. أزمة سوريا جذورها محلية٬ وهذا تاريخها بإيجاز. ولد نظام الأسد من منتجات الحرب الباردة ومحسوب على المعسكر السوفياتي٬ وبعد سقوط السوفيات لم يستطع أن يتغير أو يتطور. ثم صار وضعه أصعب بعد موت مهندس النظام٬ وضابط إيقاعه٬ أي مؤسسه حافظ الأسد عام 2000. تولى بعده ابنه بشار٬ الذي درس سنة واحدة في طب العيون٬ وفشل في إدارة الدولة. وفي عام 2011 واجه انتفاضة شعبية٬ مع بقية الأنظمة العسكرية الأمنية في المنطقة مثل مبارك مصر٬ وزين العابدين في تونس٬ والقذافي في ليبيا٬ وصالح في اليمن.
وبالتالي فإن قراءة الأزمة السورية على أنها نتاج صراع عربي مع إيران٬ أو نزاع مذهبي غير دقيقة٬ هي مضاعفات مباشرة لانهيار النظام وليست سبب الانتفاضة عليه. وبالتالي سيكون من المستحيل الإبقاء على الأسد إلا في حال إعادة مبارك للحكم في مصر أو ابن القذافي إلى ليبيا.
من أجل الإبقاء على الأسد في دمشق قام الروس والإيرانيون بذبح ثلث مليون إنسان٬ وتشريد اثني عشر مليوًنا آخرين٬ وتدمير عشرات المدن. وهم الآن يحاولون طرد نصف الشعب السوري من مناطقهم لبناء دولة مكوناتها الإثنية تلائم قدرة الأسد الذي ينتمي إلى طائفة نسبتها من السكان عشرة في المائة فقط. فأي جنون هذا؟
وكيف تقبل حكومات المنطقة السكوت عن هذه المهزلة والمأساة الخطيرة؟!