IMLebanon

التأسيس للثورة في إيران

 

في بطاقته التعريفية، كل شيء يثبت أن نظام الملالي في إيران عاش أكثر من عمره الافتراضي بكثير، هو نظام ميت وخارج سياق العصر ولم يكن يصلح لأكثر من مرحلة انتقالية بعد الثورة ثم يسلّم السلطة ويعود لحوزات قم لتدريس المريدين. أما وقد بقي بفعل عوامل كثيرة، فإن ذلك لا يعني أن بقاءه كان أمراً طبيعياً، بل زيادة مجانية في فائض العبث واستهلاكاً من رصيد مستقبل الأجيال الإيرانية في التطور والنماء.

وبعد أربعين عاماً تحوّل النظام إلى منظومات فساد تتوزع ثروات البلاد وتخرج المجتمع الإيراني من حساباتها، هذه الشبكات التي باتت تشكّل هيكلية النظام وركيزته هي ذاتها الحاجز الذي يمنع أي عملية إصلاح ممكنة للنظام، وترى أن الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الأوضاع المستجدّة هي استخدام العنف والقمع إلى أقصى درجاته.

لكن هل حقاً نامت الثورة في إيران، أو جرى إجبار الثوار على الرجوع إلى الهوامش التي خرجوا منها؟

على العكس مما يعتقد سدنة نظام الملالي، فإنه في إيران يتشكل سياق صحيح لثورة ستفكّك بنية العنف وتستزف طاقته المختزنة، قد يحتاج نضوج هذا السياق إلى زمن، لكنه من المؤكد أنه قد بدأ، وستكون تعبيراته في الغالب مطلبية وعلى شكل إضرابات قطاعية متفرقة، كما حصل من تظاهرات عمال شركات ذهب وغاز، وهذه التعبيرات وغيرها ستتموضع في قلب الحدث الإيراني وبخاصة أنها حصلت على شرعية من بعض أركان النظام الذين اعترفوا بأحقية مطالب المتظاهرين على غرار الرئيس حسن روحاني وبعض الإصلاحيين، كتنازل قدموه للاحتجاجات.

هذه التعبيرات التي تصنف على أنها أقل من ثورة ربما هي التقنية الأفضل لواقع شعب يعيش تحت سلطة استبدادية، فهي بمقدار إرهاقها واستنزافها لأجهزة التسلط، تحقّق مع الزمن تكبير كتلتها، كما أنها تستقطب بعض التيارات والأجنحة في النظام الذي أخذت تباشير صراعاته بالتشكّل، ولو على خفر في هذه المرحلة النبكرة نسبياً من الاضطرابات.

وللتدليل على نجاح هذه التقنية يكفي أن نتذكر تجربة الإضرابات العمالية في تونس التي سبقت الثورة وقد شكلت فرصة للتدرب على الاحتجاج وأفرزت قيادات أدارت الثورة ضد الرئيس بن علي بكفاءة، وفي مصر كان للفعاليات التي أدارتها حركات (كفاية و6 أبريل) دور مهم في مسارات الثورة وتنظيم فعالياتها وإدارة الحراك للوصول لأهدافه، بالمقابل فإن عدم وجود هذه الظواهر في سورية كلف ضريبة دم كبيرة وعندما حاول السوريين استدراك ما فاتهم في هذا المضمار كان الأوان قد فاتهم واكتشفوا أن تعلم السياسة تحت النار مسألة مستحيلة.

هي إذاً فرصة للإيرانيين لإعادة بناء المجال السياسي بطريقة مختلفة عما أوجده نظام الملالي، الذي أسس ذلك المجال بطريقة يبدو ظاهرها ديموقراطياً لجهة تعدّد مؤسسات السلطة ووجود نسبة تمثيلية بها، لكنها في المضمون مؤسسات فاقدة للفعالية ووظيفتها الوحيدة تكريس النمط الديكتاتوري في الحكم، أما عن الخلاف والاختلاف داخل مكوناتها (محافظ وإصلاحي) فهو لا يعدو كونه عملية مضبوطة ومدارة مركزياً بدقة.

لا شيء يدعو إلى الجزم بأن الثورة في إيران انتهت، فالتكتيكات التي استخدمتها السلطة ليست سوى تكتيكات تشعل نار الثورة، دعوة الموظفين إلى مسيرات مؤيدة واستدعاء «الباسيج» و «الحرس الثوري» لقمع الثورة، هذه ملقّحات لولادة ديناميات جديدة وليست عملية علاجية سليمة دفعت المتظاهرين إلى التراجع نتيجة تحقق مطالبهم. وفي الوقت الذي يواسي فيه حكام إيران أنفسهم بقمع الاحتجاجات، في الوقت الذي سجّل المحتجون رصيداً جديداً لثورتهم، وأنجزوا خطوات مهمة، من نوع معرفة البيئات التي باتت مهيأة للثورة والتي ستكون حاضنتها المستقبلية.

كتب الإيرانيون على حيطان شوارعهم الموت للديكتاتور، وفي خبرة الشرق عندما تصل الأمور إلى هذه العتبة فإن السياقات تكون قد أسست خط البداية، وقد يحصل أن تتباطأ وتيرة الأحداث وتنوس قليلاً، لكن لا رجعة إلى الوراء غالباً، وهي حالة لا يفرضها عناد الثوار وحسب، بل طبيعة ردود الأنظمة التسلطية التي تذهب باتجاه الانتقام والبطش، ما يجعل التراجع عن الثورة نهائياً أمر خطير ومكلف.

في ثورات الشرق يختلط تعب السنين من الاستبداد والفساد مع شوق عميق لحياة أفضل ومستقبل أجمل، هي تعب الآباء وقد امتزج بأشواق الأبناء للحرية.