بعد إقرار سلسلة الرتب والروتب وما حوَته من تقديمات للموظفين وضرائب ورسوم لتمويل كِلفتها، تعالت أصوات سياسية بالمطالبة بالإصلاح المالي، لِما يشكّله من مدماك تحصيني مانِع لتداعيات السلسلة وآثارها على الناس وخزينة الدولة.
بالتأكيد إنّ الإصلاح المُطالَب به، هو الوصفة الدوائية الملائمة للمعالجة، لكنّ الذي ينقصه فقط، هو أن يلتقط أهلُ الربط والحلّ السياسيَّين زمام المبادرة إلى تطبيق هذه الوصفة المتضمّنة الدواءَ الشافي من هذا المرض المزمن الذي تُعاني منه البلد والمالية العامة، وبما يُحصِّن الشعارَ الذي طرِح أخيراً: بالحفاظ على السلامة الماليّة.
بعد إقرار السلسلة وأكلافِها، قيل إنّ المسالة لم تنتهِ، بل لا يجب أن تنتهيَ هنا، بل المطلوب ورشة سياسية حكومية وطبعاً مجلسية، للانتقال إلى الخطوة التالية للسلسلة، والتي باتت اكثرَ من ملِحّة، وعنوانُها تحصين المالية العامة، بإعلان حالة طوارئ إنقاذية تكسر كلَّ حلقات الانهيار المتمثّلة بالهدر المريع لأموال الخزينة، وبالفساد الضارب في أعماق الإدارة، وبالفوضىى التي تُطوّق كلَّ القطاعات من دون استثناء.
بالتأكيد إنّ الإصلاح المالي مطلوب، ولكن كيف، ومَن سيبادر ومَن سينفّذ؟
تكفي عودةٌ إلى ذاكرة البلد وتاريخه ليتبيّنَ أنّ هذا الإصلاح حلمٌ من عشرات السنين؛ عمرُ المطالبة به من عمر لبنان، وتنوَّعت أصنافه؛ إصلاح سياسي، إصلاح إداري، إصلاح إنمائي، إصلاح مالي، إصلاح اقتصادي، إصلاح تربوي، إصلاح إعلامي، إصلاح انتخابي. وكلّ هذه الأصناف ما زالت قيد المطالبة بها. ربّما لأنّ تلك المطالبة أو المالبات، تجاهلت قصداً أو تناست أو أغفَلت سهواً، أو أغمضَت العينَ عن المعبر الأساسي والإلزامي لولوج أيِّ إصلاح، والمتمثّل بـ«الإصلاح الأخلاقي»!
يعني ذلك أنّ «الإصلاح الأخلاقي» هو الذي ينبغي أن يكون الهدفَ الأوّل، ولكنْ هل ثمَّة إمكانية لتحقيقِه وقطعِ أذرعِ الأخطبوط القابضة على كلّ المفاصل في الدولة، وتَرسم بكلّ جرأة لا بل بكلّ وقاحة، خريطة طريقِ انهيار الدولة ومؤسساتها وماليتها العامة، من دون محاسبة أو مساءَلة لأيّ أخطبوط. برغم احتواء تلك الخريطة عشرات النماذج والعيِّنات من الارتكابات المرئية والمسموعة من قبَل الجميع، والتي تَتردَّد على ألسنة الناس وعلى مسمع ومرأى المحميات السياسية لكلّ «الأخابيط» (جمع أخطبوط)، ومِن هذه النماذج والعيّنات:
– جيش المسجّلين في خانة التوظيف، ولا يحضرون إلى مراكزهم، ومنهم من هو مسافر خارج البلد ويصله راتبه من دون أيّ نقصان لا بل يتقاضى بدلَ النقلِ كأيّ موظف يواظب على الدوام يومياً.
– جيش المستشارين لبعض النافذين لقاء مخصّصات بالملايين.
– جيش الفاسدين من موظفين ومحسوبين ومحميّات. ينخرون كلَّ شيء والرشاوى الفاضحة في كلّ القطاعات، ولا سيّما الخدماتية منها. و»تجارة المعاملات» وأكل مالِ الخزينة، بربط إنجازها بتسعيرة يجب أن تُدفع ثمناً لهذا التوقيع. ويقولها الموظف المعني بلا خجل أو خوف «لي هالأد وللمدير هالأد»، وإلّا تُؤَخّر المعاملة او تُهمَل حتى يتمّ الدفع؟!
– الفَلتان المستفحل في المرافئ والمحميّات التي يرعاها نافذون وترعى بدورها التهريب المستمر حتى الآن من دون حسيب أو رقيب.
– «تسَلُّط» بعض الموظفين المدنيين وغير مدنيين على ورَشِ بناء، وظيفتُهم فقط غضُّ النظر عن مخالفات فيها لقاء «الجمعية» التي يتقاضونها تحديداً في نهاية الأسبوع، حتى إنّ بعض أصحاب تلك الورَش صاروا يتندّرون بها إلى حدّ أطلقوا عليها تسمية «السبتية»، على اعتبار أنّها تحصل كلَّ يوم سبت!
– «تسَلُّط» بعض الموظفين بلباس رسمي على الناس باختلاق مخالفات وهمية على إنشاءات قائمة وبعضُها شرعي وقانوني قديم العهد، سرعان ما تنتهي إلى الحلّ بـ 50 ألف ليرة أو 100 الف ليرة، تبعاً لنفسية الموظف المذكور. وثمّة إجراءات تأديبية اتّخِذت بحقّ بعضهم، ولكن من دون أن يرتدعوا.
– مَحاضر عشوائية بمخالفات سير بحقّ مواطنين، ومحاضر أخرى سرعان ما يجري تمزيقُها وإلغاؤها بعد ورود اتّصال من مسؤول. ومحاضر أخرى تُمزَّق وتُلغى لقاءَ تقاضي مُعِد الضبط بين 20 ألف ليرة و 50 ألف ليرة من قيمة الضبط.
– التغاضي غير المبرَّر والمفهوم، عن ظاهرةٍ مخِلّة تتجلّى بتركيب لوحة سيارة برقم معيّن على مجموعة سيارات، ولا من يجرؤ على المحاسبة ومنعِ هذه الظاهرة. وثمَّة مثالٌ فيه بعضُ الطرافة، إذ إنّ سيارة اصطَدمت بسيارة في منطقة معيَّنة قريبة من بيروت، على الفور نزلَ سائق السيارة الثانية وتوجَّه إلى السيارة الثانية وتوجّه إلى سائقها قائلاً: «يللا حديد بحديد، أنا من العائلة الفلانية ومن المنطقة الفلانية، إذا بدّك تجيب خبير ما رَح تستفيد شي السيارة مسروقة، والنمرة مزوّرة وشو بدّك تعمل»؟ فسَلّم السائق أمرَه إلى ربّه وقال «ألله بيعوّض»!
– التغاضي عن الفلتان في نهبِ الناس الذي يرافق أيّ زيادة للرواتب أو حتى قبل أن تزيد، والذي يمارسه التجّار في رفعِ أسعار السلع عشوائياً حينما يشاء دون أيّ خطوة رادعة من مصلحة حماية المستهلك، وكذلك النهب الذي تمارسه بعض المدارس في رفعٍ جنونيّ للأقساط بلا أيّ مبرّر.
– الفَلتان المستشري في خرقِ الأنظمة والقوانين، وخصوصاً ممّن يفترض بهم تطبيقُها، وثمّة أمثلة فاقعة وفاضحة كمِثل أن توفّق الأجهزة الأمنية في إلقاء القبض على شخص بحقّه عشرات مذكّرات الملاحقة والتوقيف، فيتمّ الإفراج عنه بسرعة البرق، فقط لأنّ الوزير يريد ذلك.
– فَلتان التواطؤ الذي يتبدئ في بعض القطاعات غير المدنية، بحيث تتقرّر مداهمة مطلوبين أو مجموعة مهرّبين أو تجّار مخدّرات، لكنّ المريب أنّه قبل أن تنطلق المداهمة يَسبقها «اتّصال» من جهةٍ ما ليتواروا عن الأنظار.
والأمر نفسه إذا ما تقرَّرت مداهمة مستودع لأحد التجّار يُشتبه بوجود مواد مهرّبة وغير مستوفية للرسوم الجمركية، إذ إنّ «الإتصال» يسبق دورية الدهم، وإنْ وصلت الدورية فالحلّ يكون على الطريقة ذاتها، أي يُصرَف النظر على الغرامة التي يفترض أن تدخل إلى خزينة الدولة، بمبلغ بين مليون ليرة وألف دولار أو ألفين أو ثلاثة أو أكثر، تبعاً لحجم المستودع وكمّية المواد المهرَّبة، على أن يضمَّ التقرير في خلاصته: «الإخبارية كاذبة، حضَرنا ولم نجد شيئاً».
– عشرات الجمعيات الوهمية التي تتقاضى أموالاً من الخزينة، تُضاف إليها لجان إقامة المهرجانات، والتي يكاد بعضها أن يدخل كتاب غينيس من حيث إقامة بين 3 و4 مهرجانات في الشهر، وتُدفع كلفتُها بأرقام خيالية وغير واقعية من خزينة الدولة.
– فضائح على مدّ العين والنظر، وصفقات بلا مناقصات وزير يخالف القانون ويصرّ على صفقات محاطة بالتباسات واختلاسات، منها ما له علاقة بالهاتف، ومنها ما له علاقة بالكهرباء. وواحدة منها أمام «إدارة المناقصات» يؤكّد المعنيون بها أنّ «الملائكة ما ممكن تُمرّرها» لانعدام الشفافية فيها نهائياً، ومع ذلك تجري محاولات لفرضِ تمريرها خلافاً للقانون، فقط لأنّ الوزير يريد ذلك. وإنْ تجَرَّأ موظف مدير معنيّ بالقول إنّ هناك مخالفة للقانون، يُعاقَب بكتاب تأنيب وحسمٍ من الراتب.
– «تشبيح» فاضح وتزوير دفاتر شروط لمناقصات، على ما جرى مؤخّراً عندما قرّرت إحدى الوزارات الخدماتية إجراءَ مناقصة حول كاميرات وما إلى ذلك في المطار، إذ تبيّنَ عندما وضِع دفتر الشروط أنّ نحو 30 شركة معظمُها أجنبية اشترَت دفتر الشروط، وعند وقتِ تقديمِ العروض يُفاجَأ الوزير المعني بأنّ شركتين فقط مشتركتان في تقديم العروض.
هنا ارتاب الوزير وسألَ عن الشركات الأخرى، فقيل له إنكم غيّرتُم دفترَ الشروط ووَضعتُم دفتر شروطٍ جديداً يُلزم الشركات الأجنبية بأن تأتي أوراقها كلّها مصدّقةً من بلادها.
ففتح الوزير تحقيقاً بذلك، واكتشفَ أنّ أحد الموظفين في المطار وبطريقةٍ ما، تولّى الاستحصالَ على توقيع موظف كبير على دفتر الشروط المزوّر، وفي التحقيق مع هذا الموظف اعترَف بأنّه تلقّى اتّصالاً من أحد كبار النافذين وطلبَ إليه أن يفعل ما فعله. وفي النتيجة ألغى الوزير المناقصة.
– في السياسة انقسام جوهري وتبايُن في الرؤى والتوجّهات، وفي التعيينات والتشكيلات على اختلافها محاصَصة بشراكة أصحاب الشعارات الإصلاحية الكبيرة وإصرار أركان ما بات يسمّى «عهد التفاهمات» على تطبيق شعار «ع السكّين يا بطيخ»، لإدخال موظفين محسوبين عليهم لأنّ الإدارة خالية من موظفين تابعين. وتقاسُم المراكز الحسّاسة و«المدهنة» والمهمّة إدارياً وديبلوماسياً وقضائياً.
تلك النماذج وغيرها كثير تؤشّر على العقلية الحاكمة، فهل في ظلّ هذه العقلية يمكن الوصول إلى إصلاح ماليّ يفرض إجراءَ انقلاب حقيقي في كلّ بنيان وقطاعات الدولة. وإصلاحٍ أخلاقي قبل كلّ شيء، علماً أنّ الطريق إليه صعب لا بل مستحيل لأنه يتطلّب إعادة تربية مِن أوّل وجْديد؟