Site icon IMLebanon

أخلاق السياسات وآثارها

تذكّر صدام حسين كمثال للطريقة الأجدى في مواجهة التمدد الإيراني، والإشادة بالمجاهدين الذين هزموا السوفيات في أفغانستان عند تناول التدخل الروسي في سورية، وتمجيد جمال عبد الناصر كباني الدولة الوطنية في مصر، نماذج سارية في التداول الإعلامي والثقافي العربي تكشف أزمة في الذات العربية قبل أي شيء آخر.

قرب هذه الشخصيات صف طويل من الأيقونات التي لا تجوز مقاربتها بذريعة أنها باتت في دنيا الحق وأن خالقها كفيل بحسابها، رغم أن سياساتها وقراراتها ما زالت ماثلة هنا أمام البشر الفانين. يحظى ياسر عرفات بالإشادة، على سبيل المثال أيضاً، من خلال مقارنته بالرئيس الحالي للسلطة الفلسطينية محمود عباس الذي يتخبط منذ أعوام في أزمات لا يستطيع، كما صار واضحاً، الخروج منها. لكن قلة تُحمّل النهج الذي سار عرفات عليه، منذ ما قبل اتفاق أوسلو بكثير، مسؤولية جزء مهم مما آلت إليه القضية الفلسطينية.

ليست مهمة على أي حال الإشادة بالقادة – الأفراد الراحلين ولا تبخيس قدرهم في معزل عن السياقات التي ظهروا ونشطوا وغابوا فيها. الأمر الذي يكتسي معنى في السياسة، نظرية وممارسة، شيء آخر: أن استعادة زعماء أثبت التاريخ فشل المقاربات التي اقترحوها لقضايا عصرهم تستدعي نظراً عميقاً في الحاضر وليس في الماضي.

يصعب فهم ذلك التمجيد القريب من التقديس الذي يحيط بصدام حسين، كنموذج ليس نادراً في العالم العربي، بصفته قائد «القادسية الجديدة» ضد الفرس، من دون التمعن في الأسباب التي تجعل كل الردود العربية على التمدد الإيراني في البلدان العربية منذ عقدين على الأقل، على هذا المستوى من الافتقار إلى الأثر. ويصعب، قبل ذلك وبعده، تخيل الخواء الأخلاقي الذي يبيح إغفال ما لا يُغتفر من جرائم ارتكبها صدام واتباعه في حق العراقيين أولاً، مقابل دوره المفترض في إغلاق «البوابة الشرقية» للعالم العربي في وجه الفرس.

ويتعذر بالقدر ذاته القبول بمقولة الحرب على الإرهاب التي يقودها بشار الأسد وقتاله ضد التكفيريين في الوقت الذي تغطي دماء أطفال سورية ومدنييها يديه.

لا مجال في هذين المثلين غير الوحيدين لمقايضة الاعتبار «الجيوبوليتيكي» بالاعتبار الأخلاقي. لا مجال لتنزيه التحالف مع إيران ومرشدها و»حرسها»، ولا مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين الطامح إلى استعادة نفوذ امبراطوري أفل إلى غير رجعة، بذريعة رفع الهيمنة الإمبريالية الغربية عن المنطقة التي لا تفتقر إلى مسببات الانفجار الداخلي من دون أن يرفدها الغرب بمزيد من دواعي التفكك والانحطاط.

ما يتعين الانتباه إليه هنا هو تناقض فاضح بين منظومتين من الأخلاق. الأولى مخصصة للتعامل مع الخارج بدعوى وقف الأخطار التي يتعرض الكيان الوطني لها. وواحدة للداخل، تبرر للديكتاتور كل ما تتهم الخارج بارتكابه. الهيمنة الأجنبية التي يقول الاستبداد إنه يحاربها، تبدو مزحة بلهاء أمام الكابوس الاورويلي الذي يفرضه «القائد» العربي على مواطنيه، محولاً إياهم إلى عسس وعيون على بعضهم ومخبرين بؤساء لمصلحة سلطة دموية وعاتية.

ما من جديد في جدل الأخلاق والسياسة الذي يدور منذ مئات الأعوام. وليس من جديد أيضاً في تبرير حكومات الاستبداد لقمعها الداخلي الرهيب بادعاءات الصمود والتصدي لتحديات الخارج، واسترهان المواطنين وابتزازهم. لكن المسألة تكمن في تعثر ظهور منظومة قيمية أخلاقية حديثة وبديلة قادرة على إبعاد أمثال صدام حسين وبشار الأسد ووضعهم حيث يجب أن يكونوا: في لوائح القتلة.