IMLebanon

“إيتيكيت” الواتساب و”خنادق” الفيسبوك وثورة الشباب

 

الفرق بين “بدنا حكومة” و”سنُشكّل حكومة”

حين “تهطل” الشائعات علينا من كلِّ حدبٍ وصوب، كما أمطار “كوانين”، وحين نصبح أسرى الواتساب وتحت وقع إدمان الفيسبوك وتويتر، وحين لا نعود نُميّز بين عدوٍّ وصديق، وننسحب من “المجموعات” الواتسابية أو نلغيها عن بكرةِ أبيها بسبب رشقات “خصم” في السياسة، وحين نصرخ “ثورة ثورة ثورة” ونترك زمام تحقيق هذه الثورة الى من نصّبوا أنفسهم أولياء علينا نكون قد دخلنا في نفقٍ يستوجب السؤال: هل نحن على صواب؟

قبل أن تغطوا في نومٍ متقطع ضعوا هواتفكم الخليوية “أوف”، وحين تستيقظون من نومٍ غير هادئ، يتخلله أرقٌ وسهاد، عدوا الى عشرة قبل أن تضيئوا إشارة “أون” في هواتفكم، لأن سيولاً من الفيديوات والأحاديث ستصلكم عبر “مجموعات” بتّم، من دون أن تعرفوا، جزءاً منها.

 

أهلاً بكم في عالم التواصل الإجتماعي والتراشق عبر “الواتساب” في زمنِ حراك الشباب اللبناني العارم. فهل ما زال الفيسبوك محركاً كما في زمان سطوع الربيع العربي؟ وماذا عن ذاك التخابر الحرّ “الواتساب” الذي اخترق البيوت والعقول والجلد والنخاع؟

 

تتوالى “الواتسابات” على وقعِ الثواني، ليلاً نهاراً، قبل الفطور وبعده وبعد الغداء وقبله وقبل العشاء وبعده، وقبل النوم وخلاله، وعند الصبحِ والظهر والمساء، مخترقةً كلّ الأبواب الموصدة. وهذا يُسبب، في الطب النفسي، الأرق والقلق. ولا يمُتّ، في الآداب العامة، الى الأدب. والسؤال، كيف نتعاطى معه؟ بعدم إكتراث؟ بنقر إشارة “لفت”؟ أو نظل عبيداً في “غروبات” هناك من يصرّ فيها، حتى في اللحظات الصعبة، على إيذاء آخرين من دون أي مراعاة الى أن “الواتساب” ليس مكانا للنقاش السياسي؟

 

الواتساب كان شرارة “الثورة” والواتساب هو الأداة الأقوى تكنولوجياً في هذه الثورة، يليه تويتر والفيسبوك، مع فارق أن الأوّل بات يلاحقنا، بالمباشر، مثل الظلّ. هو مزعجٌ حقاً. وهو قضى على صداقات عمر. إحداهنّ، ممن أنشأنّ “غروب” لإعلاميات يظهرنَ على الشاشة الصغيرة، إنسحبت منه، وحين سمعت من “زميلة” أن إنسحابها راق للبعض بسبب “آرائها” عادت وحذفت “الغروب” نهائياً. إنتقمت.

 

بعيداً من “إيتيكيت” الواتساب المفقودة، ماذا عن الفيسبوك وتويتر اللذين حلا في مرتبةٍ تلي؟ هل ساهما في تنشيط الثورة؟

 

الأستاذ في علم الإجتماع عبدو قاعي يتمعن في بعدٍ آخر، مطلوب، لوسائل التواصل الإجتماعي في تحريك الثورات. ومن يُصغي إليه وهو يتحدث عن “قبحِ” وسائل التواصل الإجتماعي سيحذف فوراً حساباته. فلنصغِ: الفيسبوك هو إستعبادٌ للذاكرة والإنسان يواجه، عبر الفيسبوك، مصيره. ذاكرتُنا تُصبح في الفيسبوك أمامنا. ويفترض في من يرى ذاكرته أمامه أن يُحسن قراءتها لكن نادراً ما يحدث هذا. والإنسان “يتأنسن” حين يفكّ العداء مع الآخرين غير أن الفيسبوك، كما تويتر، يقويان العداء مع الآخرين.

 

كلام عبدو قاعي صعب، وهو شرحه في مئة كتاب وأكثر، ربما لأنه يُدخلنا في البعد وفي الأسرار. فلنغُصُ معه أكثر في ما يعزز فينا، بشكلٍ أو بآخر، بذور الثورة. هو يقول أن ذاكرة الإنسان، أي ذاكرة صديقنا وصديقتنا وصديق صديقتنا وكل من نتابع تفاصيل لحظاتهم عبر الفيسبوك، لا تعني ما حصل معهم البارحة، في 14 آذار 2005، أو أول البارحة، في 17 تشرين 2019، أو حتى في نيسان 1975… بل ما حصل في عشرة آلاف عام. الإنسان يحمل في ذاكرته أحداث عشرة آلاف عام والحروب المتعاقبة والعصور المتعاقبة والثقافات المتعاقبة. والإنسان لن يتأنسن إلا إذا احترق الكبرياء فيه. وهذا الكبرياء لا يولّد إنساناً بل حيواناً. والشخص يفترض أن يولد مرّة ثانية كي يُصبح إنساناً وهذا ليس معناه موته وتقمصه من جديد بل حين تولد الرحمة في داخله.

 

وما دخل كلّ ما يقوله عبدو قاعي في الثورة عبر وسائل التواصل الإجتماعي؟ ما دخل الكبرياء و”الحيْونة” والتاريخ والجغرافيا في الفيسبوك؟

 

تضع التكنولوجيا، بحسبِ قاعي، الإنسان أمام ذاته الحيوانية، فيستعيد أمام الفيسبوك كل ذاكرته البعيدة ويبدأ في تكوين لقاءات مع من يشبهه، مع جماعته، إنطلاقاً من صوَر محفورة في الذاكرة القديمة التي تناقلها من عصرٍ الى عصر، ما يجعله يُركّز معها على التجربة البدائية فيدخل مع مجموعته في أحاديث لها طابع إنتمائي قد يلتقي مع أفرادها على أساسها وقد ينفرُ من الآخر أيضاً على أساسها.

 

اتّضحت الأمور أكثر. “الأصدقاء” الفيسبوكيين الذين يتشابهون من حيث الإنتماء والفكر والعقيدة زمن الثورات، يتراصّون في “الخندق” الواحد في المحن. ففي هذه المرحلة بالذات، مرحلة الثورة، تطوف الذاكرة وينفرز الأصدقاء بين “مع” و”ضد” ونبدأ في “التلييك” الى من يُشبهنا وفي استخدام كل مرادفات التشكيك و”الغضب” ضدّ من يختلف عنا. ونبدأ (كما فعل كثيرون) في البلوك والحذف بعد الشجار. وهذا ما يسميه أستاذ علم الإجتماع “التنافر والتقابل”. الإنسان يفترض أن يتحرر ليبني حريته. الإنسان أمام وسائل التواصل الإجتماعي يبقى مكبّلاً في ذاكرة توارثها من جدٍّ الى أبٍ وسيورثها غداً الى إبن. وهذا الإنسان الذي نراه اليوم هو حاملٌ كُلّ أوجاع الذاكرة. وهذا أخطر ما نراه.

 

ليس الكبار وحدهم من يعانون من ثقلِ الذاكرة. الشباب ورثوا هم أيضاً ذاكرة الآباء والأجداد. وهؤلاء، الشباب والشابات، لا بُدّ أن يتغيروا إذا أرادوا أن يتحرروا. وفي هذا الإطار يستغرب قاعي كيف يصيغ كثير من “الثوار” مطالبهم من وحي الذاكرة. هم ردّدوا مثلاً: “نحن ننتمي الى كلّ الطوائف”. هذه العبارة تشير الى أنهم ما زالوا ينخرطون في طوائفهم. الذاكرة دفعتهم الى هذا القول معتبرين أنهم على عكس كلّ من سبقوهم “ليسوا طوائفيين”. صيغة النكران هنا تشي بأن “المنكر” موجود.

 

أمورٌ ثلاثة لم ينجح جيل التواصل الإجتماعي في تحقيقها وهي: البسيكودرام وبيئة التحرر والقدرة على قراءة الذات. وثلاثتها تعني القدرة على فهم الذات والتخلص من الذاكرة وتخطي إنتماءات الماضي.

 

أمرٌ آخر لفت أستاذ علم الإجتماع وهو إعلان الشباب والشابات جهاراً وعبر مواقع التواصل الإجتماعي: بدنا حكومة! هذا القول يشي باستسلام الشباب الذين كان يفترض بهم أن ينادوا: نريد تشكيل حكومة… سنشكّل حكومة. يفترض بالشباب صناعة الأشياء لا المطالبة بها. يفترض بالثائر أن يقول: أنا من أقرر. أنا المشرّع. ما حصل حتى هذه اللحظة جميل لكنه ناقص. المواطن الثائر لم يلعب دوره الكامل المطلوب بعد. وتتحمل وسائل التواصل الإجتماعي الكثير من المسؤولية كونها تجعل الناس يتشاركون في ما هو قائم. يجب أن يكون الشباب “تغييريين”. والمغيّر يخترع ويقترح وينفذ بدل أن يطلق شعارات وعبارات إنشائية.

 

وماذا يمنع الشباب من تنفيذ التغيير؟ الفيسبوك؟ تويتر؟ الواتساب؟ وسائل وتكنولوجيات التعبير في هذا العصر؟

 

يرى عبدو قاعي أن الشباب والشابات ما عادوا، منذ ولادة وسائل التواصل الإجتماعي، خلاقين في الفن وفي الهندسة. أصبح الإبتكار نادراً. ويستطرد: الذات تولّد نفسها. والإنسان الخلاق يخلق من نفسه من دون الحاجة الى الذاكرة. لا يمكن أن نكون خلاقين إذا أسرتنا الذاكرة.

 

نعود من الذاكرة والخلق والعبارات الإنشائية الى الحاضر، الى اللحظة، لنسأل عن مفهوم الثورة والمواطن و”السوشيل ميديا” في علم الإجتماع؟

 

المواطن هو من يفترض أن يشارك في “مأسسة” الحكم واقتراح القوانين وصناعتها والتشريع. فكيف لثوارٍ أن يطلبوا ممن انتفضوا عليهم إعادة تشكيل حكومة ويقول: هم طالبوا من وصفوهم بالفاسدين بتشكيل حكومة جديدة! وهذا، في ذاته، خطأ بليغ إقترفوه. كيف يمكن أن يطلبوا من فاسدين تشكيل حكومة نزيهة. ويستطرد: لا يمكننا أن نبني اليوم على جوع البارحة. لا يمكننا أن نبني مجتمعاً جديداً نظيفاً مبنياً على البترول. أزمة البترول لا يمكن أن نبني عليها في التأسيس لوطنٍ جديد. بناء المستقبل يبدأ من أزمة المناخ وليس من مشاكل الماضي. فلنبدأ من الأزمات الجديدة بدل التمترس، كما في بوستات السوشيل ميديا وشائعات الواتساب، وراء أزمات فيها شائعات وفيها حقد وفيها كثير من ذاكرة الأمس.

 

لا يُؤسّس اليوم على مجتمع مبني على البترول لأن أزمة المناخ تحتّم على شباب اليوم أن يثوروا من أجلها. فظائع أمس لا تصلح في بناء المستقبل. علينا أن نعيد بناء المدن، كما الذاكرة، في شكلٍ مختلف. وبدل أن نبقى نفكر: لماذا تأخذ التكنولوجيا مطرحنا، علينا أن نفكر كيف نأخذ مكان التكنولوجيا. فليقلب الشباب والشابات الأسئلة بدل أن يبقوا متسمرين أمام مواقع التواصل الإجتماعي وهم يتناقلون النكات التي لا تنسجم سوى مع ذاكرة الأمس. كل الشعارات التي يتمّ نشرها أو الإضافة عليها على مواقع التواصل الإجتماعي تتحدث عن “حكومة تكنوقراط”. فهل يفهم الشباب والشابات طبيعة هذه الحكومة ومهامها وحدودها؟ هل يعرفون أنه لا يكفي المطالبة بأشخاص تكنوقراط يفهمون بالحسابات والرساميل بل عليهم أن يطالبوا باختصاصيين يملكون الحسّ الإنساني ويشعرون بوجع الشعب ويتمتعون “بالرؤيوية”.

 

الفيسبوك، بحسب أستاذ علم الإجتماع، يخنق الخلق ويُحوّل الأحاديث الى ما يُشبه “بربرة” النساء على بعضهم. إنه سوق عكاظ ويستعرض ما جرى من دون البحث في ما يفترض أن يجري وماذا سيجري. وهذا ما يمنعنا من التفكير. إنتهيتم من القراءة؟ أحسبوا عدد “الواتسابات” التي وصلتكم. أحذفوا ما أزعجكم منها. أحذفوا ما تعتبرونه مجرد شائعات. أحذفوا القيل والقال. فماذا سيبقى لكم؟ الواتساب فيه تناقضات كثيرة وكثير من “الماضي” والماضي لا يعالج المستقبل.

 

الغاية من الواتساب “كلمة وردّ غطاها”. أما الخيار فيبقى لكم.